البعد_الاخر مصعب بريــر يكتب

طلس البريطانية “مس بولين” والمواقف البطولية لمنسوبى المهن الطبية والصحية ..!

أنقل لكم اليوم مقال قيم اتأنى دون إسم الكاتب من صديقى الإعلامى المخضرم “الشاذلى عبدالقادر” دون حذف أو تعديل : حكايات كانتربري السودانية كتاب قام بإعداده السير دونالد هولي وترجمه للغة العربية الأستاذ محمد أحمد الخضر وقد تولى مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي إصداره في طبعة فاخرة أنيقة.

إستلهم السير هولي فكرة كتابه عن حكايات كانتربري الشهيرة تلك القصص التي ألفها الشاعر البريطاني جفري سوشر، ففي العصور الوسطى جمع سوشر تسعة وعشرين شخصا من مختلف طبقات المجتمع وعبر بهم نهر التيمس في رحلة حج إلى ضريح القديس توماس بيكيت، وكان أن إتفقوا أن يحكي كل منهم حكايتين في رحلتي الذهاب والإياب، تزجية للوقت.

على ذات المنوال إستكتب السير دونالد هولي عددا من البريطانيين الذين عملوا أو أقاموا بالسودان أبان فترة الإحتلال البريطاني للسودان وطلب منهم أن يكتبوا عن تلك الأيام التي أمضوها بالسودان واستجابوا لندائه فجاءت حكاياتهم رائعة وجميلة واستحقت أن تضارع حكايات الشاعر جفري سوشر ، لذا اختار لها السير دولاند هولي إسم “حكايات كانتربري السودانية”.

تنوعت وتعددت الحكايات وكانت من ضمنها حكاية مفتش المركز، حكاية الطبيب .. حكاية الطفل .. حكاية الراهبة … حكاية القاضي .. حكاية الممرضة .. حكاية المفتش الزراعي وحكاية الطبيب البيطري …. وآخرون ….

تهمنا في هذا المقال حكاية الممرضة الآنسة بولين أو السيدة رولي فيما بعد .. إذ تحكي الآنسة بولين عن مستشفي الأبيض التي عملت بها لعدد من السنوات وتذكر حادثة معينة تجد منا الإهتمام .. ففي ذلك الصباح من عام 1949 تتذكر الآنسة بولين أنها حضرت للمستشفي باكرا لتجدها خالية من العاملين .. وتقول : “جاءني ممرضان كانا يعملان، يبدو عليها بعض الخجل والإرتباك وأخبراني أن جميع الممرضين فيما عداهما وممرضات الحريم قد أضربوا عن العمل ، وأنهم بناءا على ذلك لن يتلقوا أي أوامر مني مستقبلا ..”

وتقول “قام المضربون بإرسال برقية إلى مدير المديرية وإلى مدير الخدمات الطبية تشرح الوضع وتطالب بإبعادي من المستشفى.” أيضا تذكر مس بولين أن المدينة كانت تشهد في ذلك الوقت بعض الإضطرابات السياسية ، وأن شرطة المباحث قد اكتشفت أن بعض الشيوعيين المعروفين ممن يعملون تحت رئاستها هم الذين قادوا الإضراب .

تواصل الآنسة بولين إفادتها : “وبرغم أنني كنت أشعر بعدم الميل في الاستمرار في العمل إلا أنني واصلت عملي وباشرت إعطاء التعليمات أثناء طوافي بالأجنحة ، ولحسن الحظ أنني كنت أجد الدعم والمساندة من معظم الأطباء ومن موظفي الصيدلية والمختبر .. أما فيما عدا ذلك فقد كنت أشعر بالعزلة .. وفي تلك الأثناء ألغيت كل المحاضرات والدروس .. وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة كرت رابح إذ أنه سيعمل على تأخير ترقيات الممرضين وما يعقبها من زيادة المرتبات ..”

“… لقد استمر هذا الوضع المتوتر حوالي أسبوعين إلى أن طلب مني المضربون مواصلة المحاضرات…” إلى هنا ينتهي سرد السيدة رولي لتلك الحادثة ، نلاحظ أنها تشير إلى توتر الوضع وتقول أنها كانت تحس بالعزلة وأن الوقت كان عصيبا، فما الذي حدث؟؟ .. لماذا لم تذكر مس بولين سبب إضراب العاملين ؟؟ ما هو الأمر الذي لم تشأ السيدة رولي أن تذكره ، ولماذا عمدت على إخفائه ؟!

لكن مواطني الأبيض في تلك الحقبة من الزمان يذكرون ذلك الأمر جيدا .. الأستاذ عباس الطاهر أحمد أعد كتابا رائعا عن مدينته ، مدينة الأبيض .. نفدت طبعته الأولى في أيام قلائل ، فأعقبه بطبعة ثانية .. ورغم إصرار المؤلف أن الكتاب ليس سوى بضع ملامح من مدينة الأبيض ، إلا أنه حوى وجمع وأبان .. و أخبر أهل الأبيض بالكثير والمثير مما لا يعرفونه عن مدينتهم .

أفرد عباس صفحات كتابه لتاريخ مدينة الأبيض ومجتمعها ومرافقها الخدمية وأسواقها .. كتب عن دور العلم وعن أجهزة الحكم ، كتب عن النشاط الرياضي و كتب عن الجاليات وعن شخصيات المدينة الشهيرة .. لقد تقلد عباس أقلامه وحمل أوراقه وجاب أنحاء المدينة يسأل ويتحقق ..

ومن داخل أسوار المستشفي جاءت في كتابه حكاية … ففي يوم من أيام العام 1949 كانت عمليات النظافة والترتيب داخل عنابر المستشفي تجري بصورة جادة وحميمة .. فاليوم يوم المرور، اليوم يعاين قادة العمل الطبي والإداري العنابر المعنية ويقررون بعد مرورهم أي العنابر أكثر نظافة فينال الجائزة الأولى ..

كانت الجائزة من نصيب العنبر المشترك الذي يشرف عليه الممرض موسى الطيب ، وموسى الطيب رجل معروف في المدينة بخلق كريم ، فرحته ومن معه بالجائزة لم تدم طويلا إذ اقتحمت عليهم العنبر مس بولين بعد أن عرفت أن العنبر قد نال الجائزة الأولى لتقول في غضب أن العنبر لا يستحق الجائزة لوجود أوساخ بالحوض .. يرد عليها موسى أنه أمر طبيعي أن تكون هناك أوساخ في الحوض نتيجة لاستخدامه ، وأن فراشي العنبر على استعداد دائم لإزالتها .. إلا أن صلف الإنجليزية يفوق الحد .. فإذا بها تقوم إلى الحوض المعني وتأخذ بإصبعها شيئا من الأوساخ من قعره وتضعها على قميص موسى الناصع البياض وتقول ما هذا ؟ أليست هذه أوساخا ؟؟ أليست هذه أوساخا ؟؟

وكان الرد الذي لم يتوقعه أحد .. لا المرضى و لا الفراشين و لا الباشممرض و لا بولين نفسها .. صفع موسى الخواجية صفعة جعلت الدنيا تغيم في عينيها ، و أخذت تصرخ و تولول .. و اجتمع أهل الدار و جاء حكيمباشى المستشفى د. أحمد عكاشة و جاء الجراح المستر هسبند …

لم ينكر موسى ما حدث ، وكان أن أقتيد مخفورا إلى مركز الشرطة لتجرى التحقيقات .. فالأمر جد خطير .. سلطة استعمارية تحكم البلاد ثم في أحد مرافق الدولة تعامل امرأة إنجليزية بتلك الطريقة فذاك حدث جلل !! والمرأة ليست إمرأة عادية فهي الزوجة المرتقبة لمساعد السكرتير الإداري بكردفان المستر هكسويرث.

سرى أمر اعتقال موسى سريان النار في الهشيم وزلزلت الأرض ، على الفور توقف أهل المهن الصحية عن العمل .. آزرهم عمال السكة حديد .. نشرت جريدة كردفان الحدث وجمعت التبرعات وأرسلت برقية عاجلة للخرطوم .. كانت الحركة الوطنية حينها في أوجها.

إتصلت إدارة المستشفى بالشرطة وطلبت حفظ البلاغ على أن يسوى الأمر إداريا من داخل المستشفى .. طلبوا من موسى أن يعتذر للآنسة بولين .. فرفض .. وكانت معه في أمر الرفض كل المهن العمالية يشدون من أزره …

وإزاء هذا الرفض كان لابد من حل .. وكان الحل الذي فرضته المهن العمالية على الإدارة الطبية ويتمثل في أن تعتذر الآنسة بولين لموسى الطيب ، و أنه لا يحق مطلقا وبعد الآن للآنسة بولين أو لغيرها من النساء الأجنبيات دخول عنابر الرجال ، وأن تكف الآنسة بولين عن ممارسة تدريس علوم التمريض.

وكان لهم ما أرادوا وطبقت الشروط الثلاثة .. لكن ما هو السبب وراء كراهية الآنسة بولين لموسى الطيب ؟ تلك حكاية أخرى .. فقد كانت الدراسة لتأهيل الممرضين تبدأ عادة بعد العصر وتستمر لساعات ، كانت الآنسة بولين تقوم بالتدريس ، وكان من بين الدارسين الممرض موسى الطيب الذي اعتاد أن يطلب الإذن حين الأذان ليؤدي صلاته ، الآنسة بولين كانت تضيق بهذه المقاطعة لدرسها وتقول لموسى لم لا تؤدي الصلاة بعد الدراسة؟؟ فيخبرها موسى أن الصلاة لا تؤجل … ثم تقول له ولم لا يخرج الآخرون مثلك للصلاة ؟؟ ويرد عليها أن عليهم أن يفعلوا .. أخذت الآنسة بولين تسمح لموسى وتأذن له ولكن على مضض ، إلى أن رفضت ذات مرة فلم يأبه موسى لرفضها وخرج .. ورفعت بولين الأمر للسلطات الإدارية وعوقب موسى ، عوقب بخصم يومين من مرتبه .. إلا أنه لم يمتنع من أداء الصلاة في وقتها ، وذلك ما جعل الأنسة بولين تحقد عليه.

تلك هي تفاصيل حكاية المس بولين في مستشفى الأبيض والتي حينما استكتبها السير دونالد هولي حكت عنها بعد أن أخفت ما تود إخفاءه ووصفت حكايتها الشخصية تلك بأنها إضطرابات سياسية كانت تشهدها المدينة آنذاك وأن بعض الشيوعيين المعروفين هم من قادوا الإضراب ضدها .. بينما الأمر كله محض إفتراء وتبديل للأحداث.

هكذا شاءت أقدار أن تأتي حادثة إضراب مستشفى الأبيض في كتابين مختلفين بعد أكثر من خمسين عاما .. وأن تأتي بروايتين متباينتين الأولى بقلم الآنسة بولين في حكايات كانتربري السودانية للسير دونالد هولي والثانية في ملامح من مدينة الأبيض للأستاذ عباس الطاهر.

التحية لعباس على سفره الجميل حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية .. ورحم المولى عز وجل موسى الطيب ، الرجل الطاهر ذو القلب الكبير والذي انتقل إلى رحاب ربه راضيا مرضيا عنه في يناير من عام 2006.

بعد اخير :

أتاريهو الطلس ما جديد ، بس الحقيقة لابد ان تظهر طال الزمن أو قصر .. ليت الطلاسين يعقلون ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *