مسؤول في بنك محترم كبير وشهير سألته عن الأوضاع الاقتصادية من منظور الجهاز المصرفي .. إختصر لي المسألة بعبارة صارخة.. قال لي .. لو رهن لنا عميل في البنك عقاراً بقيمة 20 مليون جنيهاً، وطلب منا تمويل مليون واحد فقط فلن نعطيه!! سألته بدهشة لماذا؟ الإجابة الأكثر إدهاشاً جاءت منه سريعة.. (لأن النشاط الاقتصادي معطل تماماً في البلاد، ولا سبيل لاستثمار أي مبلغ مهما كان صغيراً أو كبيراً)..
بعبارة أكثر دقة.. الاقتصاد وصل مرحلة الموت السريري.. تبدو الحياة في المظهر الخارجي للمؤسسات المالية والشركات والأسواق بينما الحقيقة جفت عروقها من رحيق الحياة وباتت مثل منسأة سيدنا سليمان تنتظر دابة الأرض ليكتشف الشعب السوداني إنهم (لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب المهين ..) وهذا الحال الذي بات كل سوداني مدرك له، لا يريد الساسة أن يفهموه أو يحسوا به، فيمارسون النشاط السياسي على أقل من مهلمهم بمبدأ (الفورة مليون)..
ولئن كان للساسة خياراتهم واختياراتهم، فليس من الحكمة أن ينتظر الشعب السوداني السماء لتمطر حلاً وخلاصاً من الواقع المهين الذي يكابده.. ليس من الحكمة أن ترهن البلاد نفسها لقرار أو متخذي قرار غير جديرين بالمواقع التي يشغلونها.. ففي كل ساعة تمر يغوص السودان في مستنقع قد يأتي يوم لا يستطيع الخروج منه..
من سخريات القدر أن يختصم المدنيون ويصبح الانقلابيون هم الوسطاء بينهم.. بل وتعيهم الوساطة فيعلن المكون العسكري نفض أيديهم من الوساطة (بين المدنيين!!) هل يعقل هذا؟ أليس هو فصل من مسرح العبث الذي تتحول فيه المأساة إلى ملهاة.. والتراجيديا إلى كوميديا؟
هذا الوضع يجب أن يتوقف، الآن ، الآن وليس غداً.. ففي بلادنا من العقلاء الذين يستطيعون إخراجها من النفق المظلم بل الانطلاق بها في آفاق جديرة بها.. ولكنهم لا يجدون فرصة في زحام السوق السياسي الذي لا يتطلب مؤهلات ولا خبرة ولا حتى هِمة..
يجب قرع أجراس الإنذار بشدة.. استمرار الانقلاب أكثر مما استمر فيه خطر كبير على وجود ووحدة البلاد، ولكن الطريقة التي يدير بها الساسة العملية السياسية بشتى فروعها تعزز وجود الانقلاب وتطيل عمره بأكثر مما يتمنى المكون العسكري..
من الحكمة أن نقول .. كفاية .. كفاية .. كفاية.. قبل أن لا نجد وقتاً ولا قوة لنقولها..