وكالات : كواليس
إربد، أم قيس- على مسارحها الغربية والشمالية احتضنت الفلاسفة والأدباء، وبين جنبات شارع الأعمدة وسبيل الحوريات تحاور النقاد والأدباء، وعلى مطلها الغربي الهادئ المشرف على بحيرة طبريا وجبل الشيخ اللبناني، نظم الشعراء أجمل الأشعار.
وبدعوته “للاستمتاع بالحياة”، يستقبل الشاعر الروماني القديم أرابيوس المولود بالقرن الرابع الميلادي زوار مدينة أم قيس الأثرية الأردنية، بأشعاره التي نقشت على شاهد قبره ويقول فيها “إليك أقول أيها المار، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، تمتع بالحياة فإنك فانٍ”.
وعلى مر الأزمنة والعقود الغابرة، وحتى يومنا الحاضر، حافظت مدينة أم قيس على إرثها الفني والثقافي والعمراني الفريد، ضمن تحالف المدن العشر (الديكابوليس) بالأردن -وفق مؤرخين- مما دعا منظمة السياحة العالمية لإدراجها ضمن أفضل القرى السياحية في العالم، متقدمة على 136 مدينة منافسة.
وجاء اختيارها -بحسب المختصين- لتعدد الموارد الثقافية والطبيعية فيها، وتعزيزها للاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إضافة للتنمية السياحية والتكامل والصحة والسلامة والأمن.
وتضم مدينة أم قيس، المعروفة قديما باسم “جدارا، أو غدارة” والواقعة أقصى شمال الأردن، معالم أثرية فريدة منها نفق الديكابوليس، وهو أطول نفق مائي أثري بالعالم القديم، وآثار مبان يونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية أموية وعثمانية، ومسرحان غربي وشمالي وساحة للكنائس، وكذلك سبيل للحوريات ومقابر ملكية، وأعمدة كتب عليها أبيات شعر قديم، إضافة لمتحف أم قيس الأثري.
أيها العابر من هنا.. لا تخف
اشتهرت مدينة “جدارا” القديمة بأنها “مركز ثقافي”، يقول -مدير آثار إربد زياد غنيمات- إذ عرفت بأنها مدينة الفلاسفة والشعراء وكتاب التراجيديا، أمثال مينيبوسو فيلوديموس الملقب بـ”المحب للناس”، والأديب يونوماوس صاحب الكتب العديدة في السياسة والفلسفة والسخرية، والمولود بالقرن الثاني، إضافة للشاعر أريبوس صاحب النقش الخالد.
وخلدت أم قيس -بحسب حديث غنيمات للجزيرة نت- نخبة من الأدباء والشعراء والفلاسفة القدماء، لمع منهم الشاعر اليوناني ميلياغروس الجداري أو الغداري -نسبة لاسم المدينة القديم- المولود بالقرن الأول الميلادي، وكان من أشهر شعراء عصره وجامعا للقصائد، إذ تروي كتب التاريخ أنه تمكن من جمع نحو 134 قصيدة، شكلت نواة الأنثولوجيا -المختارات الأدبية- اليونانية أطلق عليها “الإكليل”.
واختار الشاعر ميلياغروس قصيدة له لنقشها على شاهد قبره بعد وفاته يقول فيها:
أيها العابر من هنا
لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى
فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة
إنه ميلياغروس ابن أوقراطس
الذي تغنى بالحب
وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي
لأنه وقف واسطة
بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر
لقد كان رجلا من مدينة صور
التي باركتها الآلهة
ولكن مدينة جدارا المقدسة
كانت هي مسقط رأسه
المسارح البازلتية السوداء
ويُرجع مؤرخون بناء المدينة للقرن الثالث قبل الميلاد، وكانت عبارة عن حصن خلال حكم السلالة الهلنستية البطلمية، وخلال الحكم الروماني توسعت المدينة وتطورت، لتشكل مركزا إقليميا ثقافيا تجاريا مهما بمساحة 45 هكتارا، ورغم تعرضها لعدة زلازل مدمرة خلال الحقب التاريخية المتعاقبة، فإنها ما زالت تحتفظ بالمسارح والكنائس والمساجد وشوارع الأعمدة والسوق التجاري.
ويبرز غنى المدينة وتميزها العمراني والثقافي بمسرحيها الكبيرين، سواء الغربي أو الشمالي، والمشيدة بالأحجار البازلتية السوداء، وتتسع لنحو 4 آلاف شخص، ولبراعة البنائين والنحاتين، فما زالت تلك المسارح قائمة حتى اليوم، يجاورها السوق التجاري للمدينة والحرفيون والحمامات العامة، حسب حديث غنيمات.
وعلى ذات المسارح البازلتية الحجرية القديمة، شهد النصف الثاني من العام الماضي 2022 العديد من الفعاليات الثقافية والأدبية والتراثية والفنية، احتفالا بفوز مدينة إربد “عاصمة للثقافة العربية”، إضافة لتنظيم الأيام الثقافية للسعودية والإمارات والجزائر للتعريف بثقافات تلك البلدان في مدينة أم قيس.
مدينة معمورة على مر التاريخ
ما زالت مدينة أم قيس الأثرية -وعلى مر التاريخ- “مدينة معمورة”، إذ يزورها نحو 500 ألف شخص سنويا، وفق مديرة سياحة إربد مشاعل الخصاونة، منهم نحو 200 ألف زائر أجنبي، والبقية عرب وأردنيون، وزاد من أعداد الزوار القادمين لمدينة أم قيس خلال العامين الماضيين برنامج “أردننا جنة”، الذي نظمته الفعاليات العاملة بالقطاع السياحي بدعم من وزارة السياحة.
وتعتبر مدينة أم قيس من المعالم السياحية المهمة بمدينة إربد، -تقول الخصاونة للجزيرة نت- وهي ضمن المسارات السياحية المتنوعة بالمحافظة سواء العلاجية أو الأثرية أو الثقافية أو الدينية أو الجيولوجية أو سياحة المغامرات.
ويشارك أبناء المجتمع المحلي في مدينة أم قيس بالأنشطة والفعاليات المقامة هناك، وخصصت وزارة السياحة -بحسب الخصاونة- مشغلا ومعرضا لمنتجات المرأة الريفية من التحف التراثية والريفية ومنتجات الحرف اليدوية والمشغولات الفنية المعبرة عن هوية المكان وحضارته.
وخلال النصف الثاني من العام الماضي 2022 شهدت مسارح مدينة أم قيس الأثرية العديد من الفعاليات الثقافية والأدبية التراثية والفنية احتفالا بفوز مدينة إربد “عاصمة للثقافة العربية”، وفق الخصاونة، إضافة لتنظيم فعاليات الأيام الثقافية للسعودية والإمارات والجزائر للتعريف بثقافات تلك البلدان.
وتعتبر مبادرة “عاصمة الثقافة العربية” ضمن مبادرة منظمة اليونسكو على غرار عاصمة الثقافة الأوروبية، وبدأ تطبيق الفكرة عام 1996، بناء على اقتراح للمجموعة العربية في اليونسكو.
وتستند الفكرة إلى أن الثقافة هي عنصر مهم في حياة المجتمع ومحور من محاور التنمية الشاملة، وتهدف لتنشيط المبادرات الخلّاقة وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، وذلك من خلال إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات “عاصمة الثقافة”، وتنمية ما تقوم به من دور رئيسي في دعم الإبداع الفكري والثقافي، تعميقا للحوار الثقافي، والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب، وتعزيز قيم التفاهم والتآخي والتسامح واحترام الخصوصية الثقافية.