١. مشهد اول: المريض (س. ق ) جاءنا من المطار مباشرة لقسم الطوارئ بالمستشفى. كان قد سافر لبلد آخر وأجرى عملية زراعة كلى قبل خمسة أيام من وصوله للمطار بمركز خاص في تلك البلد عن طريق شراء كلية من متبرع ( يقوم المركز المعني بتوفير المتبرعين مقابل مبالغ مالية ).
المريض لم يتم إعطاءه أي تقرير طبي عن العملية وما بعدها ونوع وعمر المتبرع والفحص النسيجي له…الخ ( وهي معلومات بالغة الأهمية للمتابعة والعلاج على المدى المتوسط والطويل بعد عملية الزراعة ) وبالطبع عدم إعطاء تقرير طبي أو اي معلومات عن العملية او المتبرع هو ممارسة مستمرة لاحظناها مع كل المرضى الذين يذهبون لتلك المراكز.للأسف وجدنا المريض يعاني من إلتهابات بجرح العملية وارتفاع في كريات الدم البيضاء وانخفاض في ضغط الدم تطلَّب أن يدخل المريض للعناية المكثفة.
وجدنا أن الجرعات المصروفة للمريض من أدوية المناعة كانت أعلى بكثير من الجرعة الموصَى بها ( وهذه ايضا ممارسة شائعة جدا لاحظناها.. وغالبا يكون هدفها ضمان ألا يحدث رفض للكلية إلى أن يصل المريض لبلاده!! ليعاني بعد ذلك من آثار التثبيط المفرط لمناعته!).. قمنا بتقليل ثم إيقاف أدوية تثبيط المناعة لأن إلتهاب الجرح تضاعف ولم يستجب لأقوى المضادات الحيوية.
وكانت نتائج تزريع عينة من الجرح ومن الدم بها انواع من البكتيريا والفطريات مقاومة للمضادات الحيوية وهي مؤشر واضح أن الظروف التعقيمية التي أُجرِيت فيها الجراحة كانت سيئة.
استمرت حالة المريض في التدهور إلى أن تمت إزالة الكلية المزروعة لأنها أصبحت نسيجا ممتلئا بالصديد ومصدرا لإلتهابات قوية تهدد حياة المريض.تحسن المريض تدريجيا بعد عدد من التدخلات بما فيها إزالة الكلية المزروعة واستقرت حالته مرة أخرى على الغسيل الدموي.
٢. مشهد ثاني: المريض (ع.خ) كان يعاني من فشل كلوي مزمن وسافر لإحدى الدول التي تجرى فيها عمليات زراعة كلى عن طريق شراء الكلية. رجع بحالة جيدة بعد العملية وكانت وظائف الكلية المزروعة لا بأس بها واستغنى المريض عن إجراء الغسيل.
لاحقا أوضحت التحاليل الروتينية التي نجريها عادة لهذا النوع من المرضى إصابته بفيروس إلتهاب الكبد الوبائي من النوع (سي) Hepatitis C virusوبمراجعة ملف المريض في وحدة الغسيل وفحوصاته قبل السفر لم يكن مصابا بهذا الفيروس. وهذا يعني أنه أصيب بالفيروس إما عن طريق إعطائه كلية من متبرع مصاب بهذا الفيروس أو نقل دم له من متبرع مصاب بالفيروس (هذه أغلب الإحتمالات من بين أخرى).
٣. مشهد ثالث: المريض (ر) أيضا مريض فشل كلوي سافر لعمل زراعة كلى من أحد مراكز (شراء الكلى).
أجريت العملية قبل حوالي شهرين من الآن ولا زال المريض يتعالج هناك. للأسف لم تعمل الكلية المزروعة ولازال المريض معتمدا على الغسيل الدموي. وقد تواصل المريض معي بعد أسبوعين من العملية يستشيرني لأنه لازال يعتمد على الغسيل بعد إسبوعين من عملية الزراعة. من يومها وأنا أتابع حالته بصورة لصيقة.
أخبره الجراح أن السبب هو صعوبة تقنية حدثت لهم أثناء عملية الزراعة أدت لتأخر (إرواء) الكلية المزروعة بالدم بعد توصيل الشريان والوريد الكلوي وأن هذا الأمر سيتطلب وقتا حتى تعمل الكلية بصورة طبيعية (كلام منطقي وهذا من المضاعفات التي يمكن أن تحدث أثناء عملية الزراعة).
ولكني اكتشفت أن الجراح الذي أجرى العملية هو نفسه الذي يشرف على علاجه بعد العملية وعلى أدوية تثبيط المناعة وغيرها من متطلبات رعاية المريض بعد عملية زراعة الكلى ( التي هي مسؤولية فريق الكلى الباطني وليس الجراحي ).. وهذا النوع من الرعاية أهم بكثير من عملية الزراعة نفسها.
الذي حدث بسبب ذلك أن مجمل الرعاية التي قدمت لهذا المريض بعد العملية فيها أخطاء كبيرة في توقيت التدخلات وفي نوع التدخلات نفسها ( التفاصيل كثيرة وطويلة ولا يتسع البوست لشرحها ).
المريض لا زال يعتمد على الغسيل حتى اليوم. والكلية المزروع لا تعمل. وهناك التهاب بالجرح وتجمع صديد حول الكلية المزروعة.
٤. التفاصيل السابقة كلها لمرضى حقيقيين من بين عشرات المرضى الذين يأتون بمشاكل مختلفة من خلال هذا النوع من الممارسة.بالطبع لا أقول أن عمليات زراعة الكلى التي تجرى في مستشفيات رسمية وبصورة قانونية تحت إشراف وزارات الصحة في الدول المختلفة.. من متبرع من أسرة المريض أو متبرع بعد الوفاة.. تخلو من مضاعفات مشابهة.
لكننا نتحدث في الحالات أعلاه عن مضاعفات ناتجة عن إنحرافات واضحة عن البروتوكولات الواجب اتباعها في هذا النوع من العمليات من التأكد من صحة المتبرع وصلاحيته للتبرع ومدى تطابق أنسجته مع المريض مستقبِل الكلية ومن بروتوكولات مكان إجراء العملية من حيث التعقيم والعناية ومن حيث الفريق الطبي ومن بروتوكولات ما بعد عملية الزراعة ومن تزويد المريض بتقرير تفصيلي عن عملية الزراعة وما حولها…الخ. هناك انحرافات واضحة وكبيرة وخطيرة عن هذه البروتوكولات تؤدي مباشرة لهذه المضاعفات.. وليست فقط مضاعفات يمكن أن تحدث بنسب ضئيلة جدا على الرغم من الإلتزام الصارم بكل البروتوكولات.
٥. لا أحب أن أكرر الكلام الذي قلته في (بوست) سابق ( البوست ستجدونه في أول تعليق على هذا البوست ) والذي أوردت فيه الأسباب التي جعلت كل المنظمات الصحية العالمية المسؤولة ترفض هذا النوع من الممارسة.
وجعلت دول العالم توقع في مؤتمر شهير في مدينة استانبول ما عُرِف ب ( إعلان استانبول ) في العام 2008 بإعلان أن هذا النوع من عمليات زراعة الأعضاء مخالف للقانون وفيه ضرر واضح على صحة المتبرعين والمستقبلين للأعضاء.
٦. أحب أن أوضح أننا في السودان لدينا مراكز ممتازة لإجراء عمليات زراعة الكلى.
بعض هذه المراكز ( كمستشفى أحمد قاسم مثلا ) يقوم بإجراء أكثر من مائة عملية زراعة كلى في العام الواحد منذ العام 2002 دون توقف وبنتائج ممتازة يمكن جدا مقارنتها بنظيراتها في المراكز العالمية.
وكذلك الحال في مراكز أخرى كمستشفى ابن سينا وغيرها من المراكز.هذه المراكز تتوفر على كادر من جراحي زراعة الأعضاء وأخصائي أمراض وزراعة الكلى وأخصائي تخدير وأشعة وعلم الأمراض والأنسجة والمناعة وتقنيي تمريض ومعامل على درجة عالية من الكفاءة.
وقد قابلت عددا من الزملاء الأعزاء من هذه الفرق في مؤتمرات عالمية في زراعة الأعضاء في أوروبا والشرق الأوسط يقدمون نتائج عملياتهم وهي نتائج ممتازة ومشرفة.
٧. كما أننا في السودان بحمد لله من أقل دول العالم من حيث المعاناة في توفير متبرع لمريض الفشل الكلوي.
على العكس تماما.. فمريض الفشل الكلوي في السودان .. في غالب الأحوال.. بمجرد إخباره بأنه يحتاج لإجراء زراعة كلية يتدافع أفراد أسرته للتبرع وتكون معاناة الفريق الطبي في كثير من الأحيان في الإختيار بين المتبرعين للمريض الواحد وليس في إيجاد متبرع للمريض.
وهذه بالمناسبة ميزة كبيرة ومهمة تفتقر لها أغلب الدول في العالم وللأسف لا زلنا لا نحسن إستغلالها بصورة تردم الهوة بين الأعداد المتزايدة من مرضى الفشل الكلوي وأعداد المتبرعين.
وهنا أحب أن أوضح لكل الإخوة والأخوات الأعزاء مرضى الفشل الكلوي أن مسألة الخوف على مصير المتبرع بالكلية من أفراد الأسرة أحيانا تكون زائدة وغير مبررة. خاصة بالنسبة للأم أو الأب نسمع أحيانا كثيرة رفضا قاطعا أن تأخذ الأم أو يأخذ الأب المبتلى بالفشل الكلوي كلية من أحد أبنائهم أو بناتهم لأن خوفهم على صحة ومستقبل أبنائهم يفوق تفكيرهم في علاج ما أصابهم من فشل كلوي.أقول إن المتبرع بالكلية عموما لا يتم قبوله كمتبرع إلا بعد أن يتم إخضاعه لحزمة من التحاليل والإجراءات الصحية التي لا بد له/ها أن يجتازه حتى يُقبَل كمتبرع. وباجتياز المتبرع لهذه الإختبارات يكون هناك حد أدنى من الإطمئنان على أن أثر التبرع بالكلية على صحة ومستقبل المتبرع يكون أثرا ضئيلا ونادر الحدوث جدا.
وبصورة أوضح يكون مستقبل المتبرع من حيث وظائف حياته كالعمل والزواج والإنجاب وغيرها غير متأثر بمسألة التبرع بالكلية.وعموما أنوه أن بعض الناس يولد أصلا بكلية واحدة ويعيش حياة طبيعية وأحيانا لا يتم اكتشاف ذلك إلا بإجراء تصوير بالأشعة للبطن لأي سبب من الأسباب فنكتشف بالصدفة أن هذا الشخص يعيش بكلية واحدة.
٨. قد يتبادر سؤال للذهن هو أنه أحيانا لا يجد مريض الفشل الكلوي أي متبرع مناسب ( لعدم توفر متبرع له أو لرفض الفريق الطبي لقبول المتبرعين له لأسباب طبية…الخ) فيكون أمام هذا المريض طريقان: إما الذهاب لشراء كلية أو الإستمرار في الغسيل الكلوي لبقية حياته مع ما في ذلك من معاناة.. خاصة ان بعض المرضى الذين ذهبوا لشراء كلية أجروا العمليات ولم تحدث لهم مضاعفات ( بالفعل هناك من استفاد من زراعة كلية عن طريق الشراء دون أن تحدث له مضاعفات طبية بعد العملية ).
أقول أن المشكلة هي أن المريض هنا يضع صحته ومستقبله في مجازفة كبيرة على أمل أن تسير الأمور دون مضاعفات مع احتمال حدوث أي من مضاعفات كثيرة وخطيرة كالتي أوردنا أمثلة لبعضها في مقدمة هذا الموضوع. ذلك لأن الظروف الطبية التي تحيط بهذا النوع من الممارسة ظروف غير ملائمة وفيها مخاطر طبية واضحة.
وهذا هو سبب ارتفاع نسبة المضاعفات الخطيرة بعد هذا النوع من العمليات مقارنة بنفس العمليات التي تجرى بالطريقة القانونية المتعارف عليها.
وذلك مثبت في كثير من الدراسات العلمية التي نظرت في المقارنة بين نتائج العمليات في الحالتين.
٩. الإخوة الذين لديهم مقدرة مالية ويحبون ان يجروا عمليات الزراعة خارج السودان أوصيهم باصطحاب متبرع من الأسرة. ثم الذهاب لمراكز رسمية وقانونية ومعروفة ومتخصصة في زراعة الأعضاء كالمستشفيات الحكومية الكبيرة أو المراكز الخاصة المشهورة التي هي تحت إشراف مباشر من وزارات الصحة في الدول المعنية. لأن هذه الدول التي تجرى فيها ممارسة (بيع الأعضاء) كلها في الوجه الآخر لديها مراكز قانونية ومشهورة ومتخصصة في زراعة الأعضاء وكوادر طبية خبيرة وممتازة.
١٠. أختم كلامي بالدعوات الصادقات لله تعالى أن يعافي المرضى وينعم عليهم بالشفاء التام.وبالتنويه على ضرورة نشر ثقافة التبرع بالأعضاء (خاصة الكلية) على أوسع نطاق. ذلك أن الأصل في جميع مرضى الفشل الكلوي المزمن هو أن العلاج الأمثل لهم هو زراعة كلية. وأن موانع إجراء عملية زراعة كلية لمريض الفشل الكلوي المزمن قليلة جدا.
فمريض الفشل الكلوي المزمن إن كان طفلا في العام الأول من عمره أو كان شيخا في عمر الثمانين يصلح أن يجري زراعة كلية.يجب أن تكون الثقافة العامة السائدة هي ألا نترك مريضا على الغسيل الكلوي إلا وقد توفرت له عملية زراعة كلية.والله من وراء القصد وهو الموفق.