تتنافس الدول على الساحة الدولية، بطرق عديدة ومنظمة تحترم قواعد التنظيم الدولي، وأحيانًا اخري بطرق تخالف مبادئ المنافسة من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الوطنية وتتحقق هذه المصالح، عبر مفهومي: “القوة الصلبة” وتعني قدرة الدولة على التأثير على الساحة الإقليمية أو الدولية من خلال قوتها العسكرية أو الاقتصادية، والسياسية؛ ومفهوم “القوة الناعمة “والذي ابتكره (جوزيف ناي) كظاهرة بدأت منذ السبعينيات وهي طريقة تعني ممارسة السلطة بالتراضي لا بالإكراه، واعتبر خلاله أن الدول ليست الجهات الفاعلة الوحيدة في التنظيم الدولي وتوازن القوى، بل إن هناك دورا محوريا يضطلع به المجتمع المدني ووسائل الإعلام والشخصيات المعروفة والرياضية والثقافية والفكرية لتغيير المفاهيم وعكس القيم والآراء حول بلد ما أو فكرة أو ظاهرة معينة،ومن خلال امتلاك القوة الناعمة، فإنه يمكن للدولة التي تفتقر إلى وسائل الردع أو تمتلكها بشكل محدود مقارنة مع القوة الصلبة بسبب صغر مساحتها الجغرافية أو قلة عدد سكانها أو ضعف مساهمتها في الاقتصاد العالمي ومحدودية مواردها العسكرية، تدارك الأمر بفضل “القوة الناعمة” والتي تسمى أيضا “الدبلوماسية الناعمة”: كالوساطة والاتفاقيات الثنائية والعمل متعدد الأطراف وعبر المنظمات الدولية المختلفة لتحقيق غايات من منطلق المصالح المتبادلة، ولذلك يستخدم هذا الشكل من الدبلوماسية أكثر تأثيراً في أوقات السلم، وهو في الحقيقة يشكل ضمانة لعدم الوصول لأزمات، وبالنسبة للدول الصغيرة والمتوسطة التي لا يدعمها ميزان القوى تكون هذه الدبلوماسية هي الخيار الأوحد.صنفت دولة قطر من خلال مؤشر القوة الناعمة عن (مؤسسة براند فاينانس العالمية) في المرتبة الـ 31 عالميا في تصنيف عام 2020 إلى المرتبة الـ 26 عالميا في تصنيف عام2021 ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى تعزيز جاذبية بيئة الأعمال في قطر من خلال التطوير المستمر للتشريعات الاقتصادية والاجتماعية لتصبح أكثر جاذبية، وعلاوة على ذلك تلعب استثمارات جهاز قطر للاستثمار «صندوق الثروة السيادي» حول العالم والحضور الباذخ للخطوط الجوية القطرية دوليا ومطار حمد الدولي الذي يتصدر تصنيفات أفضل مطارات العالم دورا كبيرا في تعزيز القوة الناعمة للدولة إلى جانب القدرة على استقطاب القوى العاملة الماهرة من المواهب المبدعة والكفاءات المتميزة،ومن الناحية السياسية لعبت قطر دورا بارزا في جهود الوساطة الإقليمية والحضور الفاعل في المحافل الدولية.منذ عام 2008 اعتمدت قطر استراتيجية التنمية الشاملة “الرؤية الوطنية 2030” (الطريق نحو المستقبل) وتعد وثيقة تعكس التطلعات الاقتصادية والبيئية والسياسية للأمة، مؤكدة على الحاجة إلى التنويع الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والسياسات السليمة، إن استضافة الأحداث الرياضية الدولية، وخاصة استضافة كأس العالم 2022، يخدم هذه الأهداف بوسائل مختلفة؛ كما مكن الحدث من تمييز نفسها عن المفاهيم التقليدية للشرق الأوسط المتخلف والممزق بالحروب والصراعات، وإبراز صورة قطر كرائد تقني مبدع وصانع سلام ووسيط مؤثر إقليميا ودوليا.قطر ليست جديدة على استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، فقد استضافت دورة الألعاب الآسيوية في عام 2006 وكأس امم آسيا 2011؛ كما استضافت قطر بطولة (للجولف ماسترز) السنوية وبطولة قطر المفتوحة للتنس، وسباق السيارات فريق (ويليامز للفورمولا _1) وكذلك نظمت جولات بطولة العالم للدراجات النارية على حلبة لوسيل الدولية في الدوحة وغيرها من الانشطه الرياضيه، ومن خلال منصة الفعاليات الرياضية الدولية، هدفت قطر إلى تحويل نمط التصور العالمي من دولة صغيرة تعتمد على النفط والغاز إلى دولة حديثة وجذابة ومتقدمة تقنيًا.تعتبر الاستضافة هدف أساسي في المشروع السياسي لدولة قطر لإصلاح صورتها العالمية والحصول على مكانة جيوسياسية متقدمة، فقد استثمرت قطر بكثافة في الاستحواذ علي مشروعات الرياضة عالميا، فاشترت الشركات القطرية أندية كرة القدم، مثل (باريس سان جيرمان)، وأبرمت صفقات رعاية مع أندية عالمية، ومولت أكاديميات كرة قدم دولية ومتطورة.. و في عام 2010، نجحت القيادة القطرية في تقديم عرض لاستضافة كأس العالم 2022، وإلى تعزيز سمعتها من خلال الاستضافة الأكثر حضورا ومتابعة في العالم، كما اجتذب الحدث أيضًا اهتمامًا عالميًا، في الوقت الذي سعت فيه السلطات القطرية لإجراء الإصلاحات القانونية اللازمة لضمان تمتع العمال بظروف عمل معيشية لائقة مكنت الدولة من تجاوز الانتقادات المجحفة والمثيرة، في حين أظهرت بطولة كأس العالم قطر 2022 الطبيعة غير المتوقعة والمتعددة الأوجه للقوة الناعمة وتسليط الضوء على حدود محاولة الدولة لتشكيل صورتها بشكل إيجابي ومتميز مع الحفاظ علي الموروث الحضاري والثقافي وترسيخ المبادئ والقيم التي مكنت قطر من تحقيق اهدافها وتطلعاتها امام العالم من خلال التنظيم والإدارة المتقنة من الافتتاح حتي ختام البطولة.مع ظهور أدبيات القوة الناعمة، بدأ الخبراء في التعرف على الإمكانات السياسية للأحداث الرياضية الضخمة و جذب انتباه العالم إلى البلد المضيف وتوفر فرصة جيدة لتعديل تصوره مع فحص سلوك الدولة وكيفية الاستجابة للتحديات وتحقيق الطموحات، فقد سعت قطر على سبيل المثال، إلى معالجة العديد من المخاوف بشأن جدوى إقامة كأس العالم في درجات حرارة صحراء قطر لكل من مشجعي ولاعبي كرة القدم، الذين لا يُسمح لهم، وفقا لقواعد الفيفا، باللعب في حرارة تتخطى ال 32 درجة مئوية دون فترات تبريد إلزامية لكن قطر تخلصت من هذه تلك المخاوف من خلال بناء وتجهيز احدث الملاعب المكيّفة بأجهزة تبريد تعمل بشكل مستدام على الطاقة الشمسية، والبنى التحتية الضرورية كخطوط المواصلات (المترو والقطارات) والمطارات وعدد كبير من الفنادق وأماكن التسوق والترفيه، واستحداث التقنيات الناشئة في وقت وجيز.تعزيز الفعاليات السياسية للأحداث الرياضية الضخمة غالبا يتم من خلال الطبيعة الرقمية المترابطة لعالمنا المعاصر، والوصول إلى جمهور أكثر عددا، كما يمكن للبلدان استخدام الأحداث والفعاليات الرياضية الضخمة للاستفادة من الشبكات عابرة الوطنية للعالم الحديث والمتقدم والتي لا تميز هوياتها في خطاب معولم، كما يمكن للبلدان معالجة الصور النمطية غير المرغوب فيها وتعزيز صورة الوجهة المرغوبة مع الحفاظ على الثوابت والقيم والعادات والتقاليد دون المساس بركائز الحضارة والثقافة التي تقوم عليها الدولة.قدمت دولة قطر نموذجا رائعا في استخدام النفوذ وعكس القوة الناعمة التي مكنتها من إقناع الكبار بقيمها وتراثها المضمن في حشد عالمي مدهش، وظفت من خلاله كافة الإمكانات الثقافية والفنية والتقنيات الحديثة، مما ضمن لها وجيرانها من بلدان الخليج العربي والتي استفادت أيضا من الحدث اقتصاديا واجتماعيا، رغم الحملات المضادة والتشوية منذ 2010 وطوال فترة الترتيب والتحضير و حتي الختام الرائع و النهايات السعيدة للبطولة، فالجزيرة الصغيرة حجزت مقعدها في صف الكبار ووضعت بصمة تاريخية وثقت فوزها المستحق في معركة شرسة انتصرت فيها قوة الإرادة والاصرار بعزيمة النهوض التنمية.
محلل وكاتب سوداني تنزانيا _دار السلام