تكاد تنقضي الآن أربع سنوات من عمر الإنتقال، والسودان كله في حالة “حيص بيص”، ولا يعرف أحدٌ من المحللين أو حتى المنجمين إلى أين ستسير الأمور دعك عن نهاياتها المحتملة. ومع هذا سنجازف في هذا المقال لترجيح أحد السيناريوهات والذي بدأت معالمه تتضح، مع التأكيد على أن المسار الرئيسي للإنتقال بقي كما هو. مسار الإنتقال الرئيسي، كما وضعه المخططون، وباختصار شديد، هو إقصاء من انتسبوا للنظام السابق وحزبه الحاكم (المؤتمر الوطني)، وحرمانهم من ممارسة حقوقهم السياسية والتبشيع بهم بحيث لا تقوم لهم قائمة ولا يكون لهم تأثير في مجريات الحياة السياسية لعدة سنوات إن لم نقل عقود، في مقابل قيام طبقة سياسية جديدة جرى تخليق أجنتها في رحم الوطن منذ أمد، وتسليمها مقاليد الأمور في البلاد لكي تقوم هي، ومن خلال الدعم الخارجي المتنوع والرعاية اللصيقة، بإعادة هندسة المجتمع والسياسة والإقتصاد.(2) كانت المحاولة الأولى في هذا المسار هي الإتفاق السياسي والوثيقة الدستورية التي بُنيت عليه، والموقعان في أغسطس 2019، لكن هذه المحاولة انتكست وأفضت انتكاستها لإجراءات قائد الجيش في 25 أكتوبر 2021، ثم كانت المحاولة الثانية وهي ما عُرف باتفاق البرهان – حمدوك، والذي جرى في نوفمبر 2021 لكنه هو الآخر ما لبث أن انهار بعد أسابيع معدودة، ثم دخلت البلاد في حالة ركود سياسي وتحولت الجهود العلنية إلى اتصالات سرية أنتجت، بعد أكثر من عام، ما عُرف بالإتفاق الإطاري الذي جرى توقيعه يوم الخامس من ديسمبر الجاري. بدت محاولات إخراج الإتفاق الإطاري في ثوب قشيب، بائسة، وحملت نصوصه المعلنة وتصريحات الأطراف الموقعة عليه، تناقضات لا حصر لها، وتأكد منذ يومه الأول أنه معزول من السواد الأعظم من القوى السياسية المعنية به، على الرغم من كونه – كما يقول طرفاه – ليس إلا إطاراً يجتمع حوله المعنيون لتفصيل ما جاء مجملاً فيه، وبحث القضايا التي اكتفى بعناوينها لوقت لاحق، ولعله لهذا السبب أو لأسباب أخرى إضافية، جاءت تصريحات قائد الجيش في معسكر المعاقيل بأن الإتفاق مفتوح وأنه لا صفقة ثنائية فيه، وأن “الأطراف التي تم الإتفاق عليها” هي مَن ستجلس لتفصّل ما جاء في ذلك الإطار !!(3) الأطراف التي تم الاتفاق عليها، هي كل القوى السياسية ما عدا المؤتمر الوطني، وبعض حلفائه السابقين، ممن لا يروق للكفيل الأجنبي رؤيتهم ضمن المشهد الإنتقالي؛ وهم المعنيون بالعزل السياسي والتضييق الذي قد يطالهم مجدداً، ولأن هذا لن يتأتى ما دامت قوى سياسية وثورية خارج الإتفاق الإطاري، فإنه من شبه المؤكد أن مهندسي الإتفاق سيستخدمون “فزاعة” عودة أنصار النظام السابق، وبعض المغريات، للضغط على مَن بقي من مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، من أجل تقديم التنازلات الضرورية وفتح الإتفاق مجدداً للقوى الثورية وما سُمي بقوى الإنتقال؛ ومن يراقب التحركات التي استمرت منذ توقيع الاتفاق الإطاري سيدرك أن هذا السيناريو هو الأرجح . في حالة نجاح هذا السيناريو – وهو مرجح – ستبقى قوتان مؤثرتان خارج الإتفاق الإطاري وخارج المعادلة السياسية لفترة الإنتقال، وهما قوى التغيير الجذري ممثلة في الحزب الشيوعي وقوى التيار الإسلامي العريض، وسيبقى كذلك حزب البعث الأصل، وهذا بالضبط ما كان يريده أصحاب الخطة الأصلية، فهم يعتقدون أن هذه القوى، بسارها ويمينها، ستكون خميرة عكننة، وأن التناقض بينها لن يسمح لها بأن تنسق مواقفها لمعارضة مؤسسات الإنتقال التي ستنشأ، كما أنهم يعرفون من أين يمكن الضغط على الحزب الشيوعي لكي “يبقى في علبه”، كما يقول المثل، ويكتفي بالتحريض على الهتاف ومحاولات تحريك الشارع وحرق إطارات السيارات !!(4) الإسلاميون المعرفون بأنصار النظام السابق، إذن، هم الطرف الأول المستهدف بالعزل السياسي على ضوء ما جرى توقيعه من اتفاق، يوم الخامس من ديسمبر الجاري، في إحدى قاعات القصر الرئاسي الذي بُني في عهدهم، والراجح أن معارضي الصيغة الحالية للإتفاق الإطاري سينتهي بهم المطاف إلى قبول التعديلات والتوضيحات التي ستجرى عليه، ويصبحوا شركاء أصيلين بدلاً من تابعين بغير إحسان، وربما تنجح جهود القوى الدولية التي ترعى هذا المسار في إلحاق قائد التمرد في جنوب كردفان، عبد العزيز الحلو، بالاتفاق الموسع، وفي ضوء هذا ستتم إعادة فرز جديدة للقوى السياسية، على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً. وستعتبر القوى التي تفاوضت وقبلت بأن تكون جزءً من الإنتقال بصيغته الجديدة هي “قوى التحول الديمقراطي” وما سواها هي القوى المُعرقِلة للتحول الديمقراطي !! وعلى الرغم من الجهد الضخم الذي بذلته القيادة المكلفة لأحزاب الإسلاميين (وطني وشعبي وإصلاح) عقب سقوط نظام الإنقاذ، في امتصاص الصدمة وفي التحلي بالحكمة والصبر وعدم الإستجابة لاستفزازات الخصوم، وبرغم الإنخراط في عمل دؤوب لجمع أطراف تنظيماتهم – كل بحسب الحال – إلا أنه من الواضح أن هنالك مشكلة في الخطاب الموجه إلى العضوية وإلى القوى السياسية والرأي العام، خاصة في ظل رمال السياسة المتحركة وتعمُد التضليل والخداع الذي جرت ممارسته منذ أواخر أيام الإنقاذ وإلى يومنا هذا. هنالك قضايا أساسية ظلت مطروحة على الساحة السودانية منذ أيام الحوار الوطني الذي اختتم أعماله في 2016م ، مثل قضايا الدستور الدائم والحريات العامة والسلام الشامل ومدنية الدولة وإصلاح أجهزة الحكم المدنية والعسكرية بحيث لا تميل إلى حزب حاكم أو معارض، وقضايا الإصلاح الإقتصادي والعدالة الجبائية، وغيرها من القضايا التي يجري نقاشها الآن ومحاولات فرض نموذج بعينه لتطبيقها. وعلى الرغم من أن كل حزب من الأحزاب الإسلامية الثلاثة كانت له أطروحاته الخاصة تجاه كل واحدة من هذه القضايا، إلا أننا لم نشهد خلال سنوات الإنتقال هذه، عرضاً شاملاً لتلك الأطروحات، ولا جهداً متصلاً لتمليك الرأي العام موقف كل حزب من تلك القضايا. فقد تركز أكبر الجهد في صد وتفنيد حملات التشويه المُتعمد التي استهدفتها، واستهدفت كل ما هو إسلامي بمن في ذلك التيارات السلفية والطرق الصوفية !! (5) إزاء هذه التطورات، يحتاج الإسلاميون أن ينتقلوا من مربع الإبهام إلى محطة الإفصاح، وأن يعرضوا للرأي العام وللقوى السياسية التي يهمها استقرار الوطن وتماسكه، مواقفهم وآراءهم من جميع القضايا المطروحة على الساحة، بهدف بناء تحالفات غير تقليدية؛ ويحتاجون إلى برامج يطمئن لها الناس لحراسة حقوقهم في الحرية والعدالة والعيش الكريم، وإلى خطاب يكون هو الأقرب إلى وجدان أهل السودان في تعزيز إستقلال القرار الوطني وقيم الفضيلة ورعاية الأعراف والتقاليد الإجتماعية. ولكي يتأتى ذلك، لا بد للإسلاميين – في كل كياناتهم – أن يحددوا بوضوح، وللكافة، أنهم مع تحول ديمقراطي حقيقي، يعطي الشعب السوداني كل الضمانات التي تمكنه من أن يختار حكامه عن طريق إنتخابات حرة ونزيهة، وأن يؤكدوا قولاً وفعلاً، أنهم مع إسناد ودعم القوات المسلحة في حالتي السلم والحرب، ولكنهم في نفس الوقت مع عدم تدخل الجيش في شؤون السياسة وتسيير أمور الدولة، ويحتاجون أن يخاطبوا مخاوف القوى التي تتهيبهم وتخشى عودتهم للسلطة والإنفراد بها، سواء أكانت من القوى الحاملة للسلاح أو القوى المدنية، وأن يبذلوا لها من التطمينات ما يعيد بناء الثقة بين الفاعلين السياسيين في السودان، ويجعل فرص الجميع في الوصول إلى السلطة متساوية. ومع أن قوى خارجية بعينها، في المحيطين الإقليمي والدولي ناصبتهم العداء، ودعمت خصومهم السياسيين بكافة أنواع الدعم منذ ما قبل سقوط نظامهم، وما تزال تتبنى مخططات عزلهم، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يحول دون قيام قيادة الإسلاميين بمحاولات مستمرة للتواصل المباشر أو غير المباشر مع تلك القوى، فهي وإن اتفقت على إبعاد تأثير الإسلاميين، إلا أنها تختلف في عدد من التفاصيل الخاصة بكيفية التعاطي مع أوضاع الإنتقال المعقدة في السودان، وهي في نفس الوقت لها مخاوفها ومطامعها التي ينبغي النظر في الجانب الموضوعي منها.