بالأمس، 13 ديسمبر 2022، وقع ما حذرت منه قبل 6 أشهر.. فقد وقّع السودان، ممثلاً في وزير المالية، مع الإمارات اتفاقية استباحة لشواطئنا ومواردنا وأرضنا.. حذرت أنا في يوم 21 يونيو 2022 من الكارثة التي حدثت أمس، وقلت بالنص مايلي:
لا شك أن أسامة داوود رجل أعمال ناجح. واستطاع إنشاء أكبر مطحن وأكبر مشروع زراعي لإنتاج البرسيم والألبان ومشتقاها، وأصبح أكبر مُصدّر للشعيرية والسكسكانية وما إليها.
وكان أسامة داوود يستغل القمح المدعوم حكومياً لإنتاج الشعيرية والسكسكانية وإعادة تصديرها ليجني من وراء استغلال الدقيق المدعوم الملايين من الدولارات.
ولم يكن أسامة داوود يملك شيئاً ذا بال في أوائل التسعينات بجانب توكيل كاتربلر الذي ورثه من والده.. كما ورث من والده علاقات قوية بالخواجات.. وتلك علاقات أسسها والده قبل أن يكون وكيلاً لوزارة الداخلية.. وحين كان وكيلاً لوزارة الداخلية أخفى سيدة كانت متهمة بالتجسس في منزله (ولعلها كانت بريطانية)، وكانت صاعقة مدوية أن يخفي مسؤول كبير في الدولة امرأة متهمة بالتجسس تبحث عنها الدولة.. وكانت تلك حادثة أثارت الصحف وقتها. والمثير للريب أن وثائق تلك الحادثة سُرِقت مع وثائق أخرى مهمة من دار الوثائق المركزية، قبل حوالي عام ونصف وفي أجواء الفوضى التي نعيشها، وهي وثائق كانت محظورة classified ولا يمكن الاطلاع عليها إلاّ بإذن..(سرقت الوثائق المحظورة، وتكتم البرهان وشيعته على الفضيحة الكارثية).
إسامة داوود رجل أعمال في العلن وسياسي في السر، ويقال: إنه سياسي إلى تنفيذ الأجندة الأجنبية أقرب، ما دامت تُدِرُّ عليه الملايين، وتخدم مصالحه الخاصة.. ومثل هذا الضرب من الناس تتأخر لديه الأجندة الوطنية.
ما دعاني إلى هذا الحديث هو تصريح وزير المالية، عن صفقة قيمتها 6 مليارات من الدولارات لإنشاء ميناء ومطار ومشروع زراعي بمساحة 400 ألف فدان بمنطقة أبي حمد، طرفاها أسامة داوود ودولة الإمارات.. وأوردت رويترز حديث أسامة نفسه عن الصفقة.
وقد ظلت الأمارات تحوم حول هذا منذ زمن الإنقاذ، فلم تظفر به إلاّ في هذا الوقت الذي تبخرت فيه مؤسسات الدولة السودانية.
وظل أسامة داؤود يحوم حول البرهان وآخرين كلما زاروا الأمارات.. وقد سيطرت الإمارات حتى الآن – وعبر أسامة داوود- على بنك وفندق وتعمل في تعدين الذهب، وتريد أن تسيطر على شركة زين للاتصالات.
وللأمارات استراتيجية للسيطرة على كل الموانئ ابتداءً بالخليج وإلى المنطقة حول قناة السويس، فسيطرت على ميناء عدن، وسيطرت جزئياً على ميناء عصب الأريتري، حيث أقامت قاعدة.
ثم امتد سلطانها لميناء جيبوتي، ولكن جيبوتي ألغت اتفاقها معها.. وقال مسؤولون جيبوتيون: إن عقد الامتياز الذي يخول للأمارات إدارة محطة الحاويات بالميناء فيه شروط مجحفة، وإن حصص التملك المتفق عليها لم تكن هي نفسها في توزيع الأرباح.
وذكر المسؤولون الجيبوتيون أيضا أن شركة موانئ دبي ذهبت إلى إثيوبيا وعرضت عليها نسب تملك في ميناء عصب وميناء أرض الصومال، شريطة التخلي عن التعاون مع ميناء جيبوتي، بهدف الإضرار به.
وقال الجيبوتيون: إنهم اكتشفوا لاحقا أن نسبة 20% من الأرباح كانت تذهب إلى كل من عبد الرحمن بوري، مدير الموانئ الجيبوتية سابقا (مهندس الصفقة والمقيم بالإمارات حالياً والمعارض للحكومة الجيبوتية)، وسلطان أحمد بن سليم رئيس مجلس إدارة موانئ دبي العالمية.. ونُقِل عن ابن سليم قوله في خضم الأزمة حين أعلنت جيبوتي تخليها عن الاتفاق: “نحن جعلنا من الجيبوتيين بشراً، لكننا سنرجعهم كما كانوا”!!!
وأضافت المصادر وقتها: أن هناك شعوراً لدى المسؤولين في جيبوتي بأن الاتفاقية الموقعة عام 2005 كانت تهدف إلى خنق اقتصاد البلاد، ولم تكن إلاّ لأغراض سياسية واستخباراتية فحسب، كما أن الأمارات تدعم المعارضة الجيبوتية بقيادة عبد الرحمن بوري مهندس صفقة الموانئ والمقيم حالياً في الأراضي الأماراتية.
وقال المفتش العام الجيبوت: إن الاتفاقية كان فيها تحايل.
وفي نفس العام (2018) ألغى البرلمان الصومالي اتفاقية مع الأمارات لإدارة ميناء بربرة.. وقال البرلمان الصومالي: إن الاتفاقية لاغيه، لمخالفتها الواضحة لدستور الصومال وقانون الاستثمار الأجنبي والقوانين الأخرى المعمولة في الصومال، وفق قرار البرلمان الصومالي حين صدر.
وأضاف القرار: أن الحظر المفروض على الشركة الأماراتية جاء بعد ارتكابها انتهاكات سافرة ضد سياسة وسيادة ووحدة وسلامة الأراضي الصومالية.. وطلب القرار من رئيس الوزراء الصومالي إبلاغ قرار البرلمان لدولة الأمارات.
وتلقت الأمارات صفعة حين اعترض نواب الكنجرس على صفقة كانت ستستحوز بموجبها على إدارة ستة موانئ أمريكية.. وقال الأمريكان: إن سيطرتها على الموانئ يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي.. تخيل أن أميركا تخاف على أمنها القومي إذا سيطرت الأمارات على الموانئ!!
وألغت أندونيسيا مواصلة الأمارات لعقد في ميناء في جزيرة جاوا.
حدثت الإلغاءات للاتفاقيات مع الأمارات من دول أحدث عمراً من السودان وأقل منه تجربةً (جيبوتي والصومال)، مع فائق تقديري لها.
وتذكرون محاولة الأمارات وتدخلاتها في منطقة الفشقة وطرحها أن تُعطى 25% من أرضها، وحديث عن وجود إسرائيل كطرف، وحديث عن إسكان ما تبقى من يهود الفلاشا الإثيوبيين بها.. وكان أسامة داوود طرفاً، كما شاع وانتشر وقتها.
للسودان تجارب استثمارات مع الهند ومع ماليزيا والصين، وكانت تجارب عمل Business خالص، وبمليارات الدولارات، وغير مربوطة string attached بأجندات وأهداف سياسية.. ولكن تجارب جيبوتي والصومال واليمن (عدن) مع الأمارات أثبتت استراتيجيتها التوسعية القائمة على السيطرة السياسية والاستخباراتية والتدخل في كل الشؤون.. ولأن سياسيي السودان اليوم متاحون للشراء فأن مآلنا سيكون أنكى.
نحن في حاجة ماسة لاستثمارات، ولكن اتفاقياتها يجب أن تكون تحت دائرة النهار المُبصِر، ويجب أن تمر تحت إشراف مباشر من المؤسسات المختصة.. والأهم أن يجيزها برلمان منتخب.. وكل الاتفاقيات في العالم تجيزها برلمانات.
أمّا أن نُورط باتفاقية كبيرة، مع دولة كالأمارات توجّست منها أميركا وأندونيسيا والصومال وجيبوتي، ومعروف مافعلته في عدن، بواسطة حِفنة من مسؤولين ورجل أعمال دار حوله حديث، فذلك مما يِثير الرّيَب والشكوك، ويخيف ويرعب.
فالأمارات، كما قالت جيبوتي، تجعل من اتفاقياتها وسيلة لأغراض سياسية واستخباراتية فحسب.. وتجعلها وسيلة سافرة لانتهاك سيادة وسياسة البلد، كما قالت الصومال.
وكم للأمارات اليوم من عملاء بين سياسيينا، يطيعونها طاعة العبد للسيد، خصماً على مصالح السودان.
وتدخلات الإمارات لا ينتج عنها إلاّ عدم الاستقرار، كما هو المشهود في اليمن، وكما ظهر لجيبوتي والصومال.
في واقع بلا مؤسسات دستورية – كالبرلمان – تجيز الاتفاقيات، ومسؤولين رخيصين سنكون أُلعوبة تديرها الأمارات، وستذهب مصالحنا أدراج الرياح.
لاشك عندي أن إكمال مشروع زادنا – 300 ألف فدان- وهو مشروع حكومي جرى تجهيز ترعته وأرضه، خير للسودان من إعطاء 400 ألف فدان لأسامة داوود والأمارات.
يتلاعب البرهان بأرض السودان وموارده وشواطئه وأمنه القومي، كأن السودان ضيعة تملكها إرثاً!!!
21 يونيو 202 أعيد النشر اليوم 14 ديسمبر 2022