كنت قد ذكرت في الجزء الاول أن تجربة الاسلاميين مع المؤسسة العسكرية ( نظام الإنقاذ) كانت في تقديري هي النموذج الأفضل والأمثل على الاطلاق طوال تاريخ السودان ؛ في اقترابها من مفهوم الدولة القطرية الحديثة ، ولولا المعوقات والتحديات الحقيقية والاستهداف الكبير الذي واجهته الانقاذ لاستطاعت اكمال بناء دولة قوية متقدمة في كافة المجالات ، لأن الانقاذ كانت تمتلك الرؤية والإرادة للتنفيذ ، فهي بذلك تجربة يحق للاسلاميين والعسكريين معا أن يفاخروا بها ، لا أن يتنكروا لها ، فقد كانت شراكة نموذجية وذكية لمصلحة الوطن ؛ وقف فيها الاسلاميون جنبا إلى جنب مع المؤسسة العسكرية برجالهم ونسائهم وشبابهم ، ليس معنويا وسياسيا فحسب ؛ بل قتالا مع الجيش في الاحراش والخنادق للذود عن حياض هذا الوطن وترابه ؛ مقدمين خيرة أبناء الحركة الإسلامية شهداء مع شهداء القوات المسلحة ، وهذا ينفي عن أبناء الحركة شبهة أنهم كانوا يريدون السلطة لذاتها ، فلو أرادوا نعيمها لما قدموا أرواحهم محتسبين متاع الدنيا لله ثم الوطن ( منهم نائب الرئيس والوزير والأستاذ الجامعي والطبيب والمهندس والطالب والمزارع والتاجر وغيرهم ) ..
الاسلاميون كانت معارضتهم ابان الديموقراطية الثالثة معارضة وطنية شريفة ، ليس فيها عمالة أو خيانة أو ارتباط بالخارج ، وقفوا مع الجيش في ملحمة مساندة كاملة ، دعموه ماديا ومعنويا ، وسيروا ( موكب أمان السودان ) في منتصف الثمانينات دعما له ، ورفضوا – عندما كانوا في البرلمان – أن يأخذ نوابهم تلك السيارات الفارهة التي وزعوها للاعضاء بينما البلد تعاني الجوع والأزمات ، وجيشها لا يجد المؤن والذخائر والملابس باعتراف عدد من قادة الأحزاب أنفسهم ( المرحوم الهندي والمرحوم عمر نور الدائم وغيرهم ) ، حينها كانت المدن تسقط أمام زحف التمرد الذي تمكن من السيطرة على معظم مدن جنوب السودان وبعض مدن الشمال فى وقت وجيز ، ووصل التمرد مشارف المدن الكبيرة لولاية النيل الابيض ، وكان قاب قوسين أو أدنى من دخول الخرطوم ، ولولا لطف الله وقيام ( انقلاب ثورة الإنقاذ الوطني) لكان السودان قد أصبح فريسة للطامعين .. وضاع إلى الأبد ..
وبعد مجيء الانقاذ للسلطة ، حينها تكالب الأعداء من كل حدب وصوب مدعومين من الخارج ، مستخدمين المعارضة السودانية خنجرا مسموماً في خاصرة الوطن ، ومتخذين من عواصم دول الجوار منطلقا سياسياً وعسكريا ومقرا لمعسكرات التدريب لضرب البلاد من الشرق والجنوب ولاحقاً في الغرب .
كانت الحركة الإسلامية تستشعر مسؤوليتها تجاه الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها ، حينها هبت مستنفرة نفسها وكافة جموع الشعب لمساندة القوات المسلحة ، ولم تكن ترجو من ذلك مغنما ولا رفعة ، ولكنها قامت بواجبها الذي يمليه عليها الدين لحماية تراب الوطن والمحافظة على مكانة ورمزية القوات المسلحة المغدور بها ، والتي حاولت المعارضة ( التي بعضها يحكم الآن ) تحطيم هذه الرمزية ، فدفعت الحركة الإسلامية بخيرة رجالها وشبابها ، واستنفرت كافة نسائها للتبرع وجمع زاد المجاهد ، ولم يتأخر الشعب السوداني عن الاستجابة لذلك فدفع بسخاء مقتسما لقمة عيشه مع القوات المسلحة ، وكان لنساء الحركة الإسلامية شرف التبرع طواعية بالذهب والحلي في ملحمة وطنية متفردة ؛ فكان مشروع ( جبل الذهب ) ، وفتحت معسكرات الدفاع الشعبي لكل الأوفياء من جماهير الشعب السوداني بمختلف أعمارهم ومستوياتهم في تعاضد وتكاتف وتزاحم لا شبيه له إلا مشهد الحج ، ولأول مرة تغلق الجامعات أبوابها ( ١٩٩٧ – ١٩٩٨ ) تضامنا مع القوات المسلحة والمجاهدين ، فتمكنوا بفضل الله ثم بفضل هذه الجهود من صد كافة اعتداءات التمرد في جنوب وشرق السودان ..
عملت الحركة الإسلامية بعد مجيئها للسلطة على تسخير كافة قدراتها البشرية والمادية لبناء دولة قوية في كل المحاور والمجالات وكانت تود إقامة نموذج في العالم ، وكان في أولويات هذا البناء أن جاء الاهتمام اولا بالمؤسسة العسكرية (صمام أمان البلاد) من المخاطر الداخلية والخارجية ، فعمدت على تطوير القوات المسلحة وتجهيزها بأفضل القدرات القتالية والتقنية والتدريب الداخلي والخارجي ، والاتجاه للاكتفاء الذاتي بتصنيع السلاح داخلياً وهو ما حرم السودان من الحصول عليه بسبب الحصار الذي فرضته قوى الاستكبار ، وكان الهدف إضعاف قدرات الدولة في مواجهة هذه التحديات ، فاستنهضت الحركة خيرة عقول أبناء السودان لإسناد القوات المسلحة في مجال التصنيع الحربي ، فتم انشاء منظومة الصناعات الدفاعية ؛ التي تمكنت من تجاوز الصناعات الصغيرة إلى الدخول في مجال الصناعة الاستراتيجية كالطائرات الصغيرة ، والدبابات الحديثة ، والصواريخ الذكية ، ومختلف أنواع الأسلحة والذخائر ، مضاف اليها العمل مع الدول الصديقة في مجال الاقمار الصناعية بمشروعات يصممها شباب السودان الواعد ، وغير ذلك من التقنيات العسكرية بما فيها مشروع الطاقة النووية للأغراض السلمية ، بل حتى الدخول في مشروعات الأمن الغذائي عبر شركات مثل شركة زادنا .
وحسنت الدولة من مستوى بيئة العمل والخدمة في القوات المسلحة ، بعد أن كانت تعاني الإهمال والتجويع والعري ونقص المعدات والذخائر في فترة الديموقراطية الثالثة . فقد وجدت الإنقاذ السودان في أضعف حالاته في كل المجالات ، وقبلت الحركة الإسلامية تحدي النهوض بهذا البلد المنهار اقتصاديا وأمنيا في ظروف بالغة التعقيد ، وفي ظل استهداف خارجي حتى من الأشقاء ودول الجوار ، لأنهم لا يريدون للسودان أن يصبح دولة قوية ؛ قادرة على استغلال مواردها ، مستخدمين في ذلك كل أساليب الحروب الباردة والساخنة ، ومع ذلك تمكنت الإنقاذ في ظل كل هذه الظروف من تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ، وتمكنت عبر ملحمة تاريخية من استخراج البترول رغم كل محاولات الغرب لإفشالها ، وخلقت نوع من الاستقرار ، مكنها من النجاح في كثير من الجوانب الأخرى بصورة أدهشت حتى الدول الغربية كيف لدولة تعاني كل هذه الظروف أن تحقق تقدما وتنمية وتنتصر في حروب باهظة التكاليف موجهة من عدة محاور ودول مجاورة .
لقد تعرضت المؤسسة العسكرية للخيانة والاستهداف الممنهج من قبل أحزاب سياسية صغيرة الحجم والوزن ومنبوذة اجتماعيا ، ومن حركات مسلحة معظمها مرتبط بالخارج ، ويكفي أن طموح بعض الحركات كان تشكيل جيوش تحت مسمى ( تحرير السودان !! ) ، وهو توجه ومخطط عنصري انتقامي بغيض يهدف لتحويل السودان إلى ( دولة فاشلة ) ، ويقف خلف هذا المشروع – خلاف القوى الخارجية – الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يعمل من خلال واجهات سياسية يدعمها بكوادره بالإضافة إلى بعض الحركات مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تم رفدها منذ وقت مبكر بعدد من الكوادر الشمالية لإضفاء طابع قومي عليها ، وكانت هذه الحركات تنادي بأجندة علمانية تريد بها طمس الهوية السودانية فيما يعرف ( بمشروع السودان الجديد ) ، وحركة عبد الواحد محمد نور ، وحركة عبد العزيز الحلو ، وظلت تعمل هذه الأحزاب والحركات على فرض مشروع وأفكار ( علمانية ) لا تعبر عن قيم المجتمع السوداني ، رافضة الدخول في سلام حقيقي يحقق استقرار البلاد ، واستمر مشروع تفكيك الدولة هذا إلى الآن ؛ مركزا على القوات النظامية باعتبارها صمام الأمان ، فاثناء وبعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ازداد الاستهداف للجيش ؛ من خلال الشعارات المعروفة للجميع ، وبدأت هذه الجهات تنادي وتعمل بقوة لإعادة تفكيك المؤسسة العسكرية ، بل تتعداها الى المؤسسات الشرطية والأمنية والقضائية ، علما بأن هذه مؤسسات راسخة ولها تاريخ وارث وطني مشرف ومهم جدا ..
فكان الأولى بالجميع العمل على أن تظل هذه المؤسسات محترمة ومصانة ؛ لتكون قيمة على مكانة الدولة والمجتمع وحراستها ، لا اضعافها وجعلها عرضة للأجندات المشبوهة ، وهنا يأتي دور الشعب السوداني الذي خدع بالانجراف وراء تلك الشعارات الخطيرة ،، فلابد أن يعي الشعب دوره الحقيقي في المحافظة على حماية هذه المؤسسات العريقة من أي تدخلات داخلية وخارجية ..
وإن كانت هناك أي ملاحظات أو تشوهات عليها ؛ فيمكن أن تعالج ( بطريقة مهنية ) وليس بفعل القوة الثورية المتهورة ، ذات الأبعاد السياسية المفضوحة ، فلا بأس من أي مراجعات وإصلاحات تتم اذا كانت وطنية خالصة وعبر قنوات المؤسسية والإجراءات الدستورية التي يقرها غالبية الشعب السوداني ، لكن الغريب في هذا الأمر هو الاستسلام التام من هذه المؤسسات وعلى رأسها المؤسسة العسكرية لهذا المخطط التدميري من اليسار ، والذي يهيئ الظروف لاحقا لمخطط تقسيم السودان ، ما يعني نهاية حلم الدولة السودانية الحديثة ..
فكل الدول تمضي قدماً للأمام لأن حكوماتها المتعاقبة تبني على ما سبق من جهود ؛ وتضيف عليها وتصحح الأخطاء بشكل بناء بعيدا عن تصفية الحسابات والمصالح السياسية الضيقة ، ودائما تلتقي توجهات احزابها السياسية على مبادئ وقواسم وطنية مشتركة ، لكن ما يجري في السودان حاليا يختلف عن ذلك كليا ، وينذر بنهاية أي أمل في بناء دولة المؤسسات القوية الحديثة ، وهنا تقع المسؤولية على الجميع في حال انهيار البلاد بسبب المواقف السلبية لكافة القوى الوطنية والشعبية ..
ختاماً .
سيظل هذا التاريخ المشرف للحركة الإسلامية تجاه دعم واسناد القوات المسلحة تجربة وطنية ( غير مسبوقة من أي قوى سياسية أخرى ) ، وكان الواجب أن يؤسس عليها وتطويرها ، وأن تقابل التجربة بالوفاء والتقدير ، لا بالجحود والنكران من بعض منسوبي بعض الاحزاب داخل وخارج هذه المؤسسة ، وهذا ما يجعلنا نتساءل أين دور بقية الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية الأخرى في التصدي لهكذا مشروعات تدميرية متطرفة ؟ .
عموما نثق في أن بعض الآراء الشاذة والمتطرفة والجاحدة التي تصدر من هنا وهناك ؛ لا تمثل كل مؤسسة القوات المسلحة ولا رجالها الذين تقاسموا مع أبناء الحركة الإسلامية والشعب السوداني المعاناة والتضحيات في السراء والضراء ..
واكرر كلامي الذي قلته سابقا موجهاً لأبناء الحركة الإسلامية أن لا تعولوا على رد جميل ربما لن يأتيكم في هذه المرحلة التي تتسم بالسيولة والتوهان ، ولا تعولوا على تدخل الجيش لحسم تفلتات اليسار والعلمانيين في المساس بهوية ومكتسبات المجتمع الحضارية عليكم ان تتجهوا إلى أدوات وقوى اجتماعية وسياسية وثقافية اخرى ، واحتسبوا وفاءكم للقوات المسلحة عند الله .. ، ولا ترجوا منها موقف مؤثر ، لأن المعادلة السياسية الآن اختلفت تماما ، واللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يتحركون داخل المشهد السوداني يعملون بكل ما يملكون لاقصائكم تماما عن هذا المشهد .. ، واعلموا ان خيانة بعض رجال القوات المسلحة لا تمثل خيانتها كلها لكم ، وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه الكثيرون أنهم فقدوا رجالا أوفياء صادقين وطنيين عند الشدائد وحين البأس ثابتين ثبات الجبال أمثالكم ، ( وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) ..
ستظل آثاركم وبصماتكم ؛ شاهدة عليكم في تثبيت أركان هذه الدولة ، والمحافظة على موروثها الحضاري والثقافي والاجتماعي ، والشروع في إرساء دعائم الدولة السودانية القوية الحديثة المستقرة ، رغم كل العقبات التي وضعت في طريقكم ، فقط عليكم الآن أن تعكسوا كل هذه المجهودات وهذا التاريخ وتوثقوه لأجيال وشباب السودان التي الذين غرر بهم ، والذين تم شحنهم بالكراهية تجاهكم ، وأن تعرفونهم بالتاريخ المظلم لمن يحكمون الآن وخيانتهم للوطن بمشاركتهم في وضعه تحت العقوبات والحصار ، وهم أنفسهم الذين سرقوا ثورة هذا الشعب ، واستهدفوا القوات المسلحة وشوهوا تاريخها الوطني العريق ..
( المقال نشر بتاريخ ٦ يوليو ٢٠٢٠ )