أمواج ناعمة د. ياسر محجوب الحسين السودان.. المدافع تسكت نواقيس العيد

العيد فرصة لتجديد حسن الظن في الله وفي من حولنا حيث يطيب عيشنا، وإنه كذلك مناسبة لاعتناق الفرح بمساراته الروحية والدنيوية. فكيف لا نفرح ومع نسمات صباح العيد الأولى ترن نواقيس الأطفال وتعلو ضحكاتهم البريئة. ومع سماع هذه النواقيس هناك في ذات الوقت نواقيس في مجمعات ومدننا أسكتتها المدافع والصواريخ بلا رحمة، ولعل الخرطوم هي أحدث المدن الإسلامية التي أصابها الاقتتال العنيف. السعادة الحقيقية تخبرنا أن ليس السعيد ذلك الذي تسعده أمواله بل السعيد من يتذوق فرحة العيد وهي فرحة لا تكلفنا مالا ولا رهقا.
بالأمس ذرفنا الدموع على فراق شهر رمضان الكريم فعبّر عنا ذلك الشاعر الملتاع قائلا:
أيها الضيف تمهل
كيف ترحل؟ والحنايا مثقلات، والمطايا تترجل
كيف ترحل هل عتقنا؟ أم بقينا في المعاصي نتكبل؟
أيها الشهر تمهل
خذ فؤادي حيث سرت، فحنيني يتنقل
وبعد رمضان حل العيد ضيفا كريما بين ظهرانينا فأصبح حالنا كقول شاعر آخر:
رحمات رمضان تملأ المكان
وأنفاس العيد تعطر الزمان
وبسمات المحبين تضيء الأكوان
في السودان وقبل نحو 4 أعوام اندلعت ثورة رفضا لواقع كان الأفضل من النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية، فأحدثت تغييرا فجائيا لنظام الحكم السابق، على أن يلي ذلك إصلاح سياسي لكن الفوضى السياسية التي طرأت على المسرح السوداني إثر تلك الثورة استدعت تغييرا سياسيا وليس إصلاحا فحسب، لأن الإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشاكل والأخطاء الجادة دون المساس بأساسيات النظام. بيد أن المأمول كان إحداث ثورة جديدة وتغييرات جوهرية تمس بنية النظام السياسي، ولا غرو أن الثورة تسعى للتغيير الشامل والجذري. وبما أن الإصلاح السياسي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالديمقراطية، والديمقراطية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالمجالس المنتخبة بكافة أنواعها ومنها النيابية. فسودان ما بعد الثورة لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن، فلا نظام سياسيا قابلا للإصلاح ولا مشاركة حقيقية للمواطنين في صنع القرار وإقامة المؤسسات الديمقراطية وتعزيزها واحترام الجيش الوطني ودعمه في مواجهة الأخطار التي تهدد كيان الدولة.
كان المأمول الشروع في ثورة تنموية شاملة بما في ذلك التنمية السياسية التي تهدف لنقل النظم السياسية التقليدية إلى النظم السياسية الحديثة، فهي جزء من التنمية الشاملة التي يسعى النظام السياسي لتحقيقها. فالتنمية تعرف لدى علماء السياسة بأنها «كل الجهود التي تبذل من أجل النمو والتقدم، وتحقيق الرفاهية للمواطن والمجتمع، وهي كلمة جامعة وشاملة لا تعني مجرد خطة أو مجرد برامج أو مشروعات للنهوض بالشعوب اقتصادياً أو اجتماعياً وإنما تعني كل عمل إنساني بناء، في جميع القطاعات والمستويات يحقق زيادة في الإنتاج وعدالة في التوزيع، ووفرة في الخدمات ودعما لعلاقة التعاون داخل المجتمع التي تحقق الخبرة العملية وتكشف الموارد الاقتصادية والبشرية وتوجهها باعتبارها قوة دافعة وموحدة لطاقات المجتمع باتجاه تحقيق أهدافه الكبرى»، فهذا التعريف للتنمية الشاملة، التي تعتبر التنمية السياسية جزءا لا يتجزأ منها.
اليوم انتقل الصراع السياسي في السودان إلى مربع خطير ليقف على شفا جرف هار، فيقع اقتتال عنيف بين الجيش القومي ومليشيا قوات الدعم السريع وهي قوات يفترض أنها تتبع الجيش وتحت إمرته؛ غير أن تحركاتها الأخيرة شكلت تمردا ربما كان هروبا من استحقاق دمجها كليا في الجيش ومعالجة الأخطاء التي صاحبت تأسيسها في 2013. وإلا فإن استمرار وجود جيشين قد يفضي إلى تقسيم البلاد. ولا يخفى أن قوات الدعم السريع في سبيل الهروب من استحقاق الدمج، مواقف سياسية مدنية في ظاهرها دعم الانتقال الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين. لكن في حقيقة الأمر أن التنمية الشاملة لا سيما التنمية السياسية بما في ذلك الأمن والاستقرار والنمو وصولا للديمقراطية لا تتم بدون وحدة المؤسسة العسكرية ومن ثمّ وحدة الدولة. لا أحد يريد أن يصبح حال السودان مثل حال دول أخرى أضحت فيها الميليشيات المسلحة أمرا واقعا تمارس فيه السياسة استنادا لقوتها العسكرية وليس استنادا لبرنامجها التنموي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
اليوم تحتاج البلاد لتدخل غير أيديولوجي للجيش، وهو أمر تفرضه الضرورة، ويستهدف إنهاء أوضاع سياسية مضطربة أکثر مما يستهدف بناء أوضاع جديدة وفق خطة واضحة، لذا فهو أقصر عمراً، ولا يحمل مشروعاً سياسياً واضح المعالم، ويفترض أن يسعى للتوافق مع القوى السياسية والشعبية الفاعلة متقبلاً تسليمها السلطة من حيث المبدأ، وهو النمط الذي تجلى في حالة المشير عبد الرحمن سوار الذهب 1985 – 1986. لقد أعقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في 2019 فراغ كبير تمثل في غياب المشروع السياسي في بعديه الإستراتيجي والتكتيكي، فضلا عن إعلان الالتزام بتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات تعقب المرحلة الانتقالية، وللحقيقة أن المجلس العسكري أبدى الكثير من التنازل بشأن إدارة الفترة الانتقالية ليتحول إلى شريك لأطراف أخرى سياسية حزبية وهو ما أطال فترة الانتقال وفتح الباب لتنازع المدنيين في السلطة الانتقالية بدون معرفة أوزانها السياسية.
وهكذا نجد اليوم بروز العديد من الأزمات التي ترافق العملية السياسية وأنظمتها بسبب انتفاء وجود عناصر الرضا والتوافق في المجتمع بل طغى نهج المحاصصة المتسم بالسمات الديكتاتورية وإقصاء الآخر، فتضاءلت قيمة الفرد أمام السلطة السياسية ضمن إطار النشاط السياسي والثقافي والاجتماعي فهي تؤمن بالمشاركة السياسية والمبادئ الديمقراطية لكن مقابل ذلك هناك صراع طبقي نابع من أعلى سلطة في الحكم وصولاً إلى المجتمع بسبب اعتماد البنى التقليدية والقبلية وعدم الفصل بينها وبين عوامل الانفتاح في المجتمع.
هل يدرك الساسة السودانيون إن لم يزالوا في غيهم ساردين، أن استمرار الصراع الحاد بينهم حول السلطة سيفضي حتما لتفكك وضياع وطنهم وحينها لن يجدوا سلطة ووطنا يصطرعون عليه؟. وحدها دولة المؤسسات بإسناد نظام سياسي معافى، يمكن أن تضمن بقاء التنوع والتباين السياسي في إطار التنافس والتبادل السلمي للسلطة بإرادة شعبية حرة، وليس الاصطراع المدمر كما يجري اليوم ومنذ عقود مضت.
https://m.al-sharq.com/opinion/21/04/2023/السودان-المدافع-تسكت-نواقيس-العيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *