أيهما أولي وأشد إلحاحا في لحظتنا الوطنية الراهنة هذه ( المحافظة علي وحدة البلاد أم الديمقراطية المزعومة ) ؟؟
للأسف يا سادتي المسألة بهذا التقابل ، وتنعدم فيها الخيارات ، فمنذ وقوع التغيير في العام 2018 ظلت عناصر التشظي الوطني في نمو متسارع ، كما ظلت نواتها تكبر وتتسع حتي لم يبق لها اليوم إلا ( طلقة طائشة ) تكون صافرة البداية لكابوس مخيف سيعصف بوطن ( كان إسمه السودان ) ..
وما نعايشه اليوم من فوضي شاملة تكاد تطبق علي الوطن ، ومن مخاوف تتمدد في حياة المواطنين في مطعمهم ومسكنهم ومستقبلهم المحفوف بالمخاطر والمملوء بالشك وإنعدام اليقين ، لم يكن ليخفي إلا لمن غابت عنده البصيرة والنظر البعيد ممن يصدق عليه شطر البيت الشعري ( *فالقوم يقظي والبصائر نوّم*) ومن ثم توهم أن هذا المآل كان صدفة توافقت مع الفترة الإنتقالية ، وأن هذا السيناريو المخيف هو مجرد عارض وتهدأ بعدها الأمور ..
( 2 )
ولكي يتثبت لك عزيزي القارئ أن ما يحدث اليوم هو سيناريو متكامل وخطة جاهزة يجري تنفيذها بدقة نحتاج لإعادة إستدعاء بعض الأحداث وقراءتها بعمق لنتبين حجم ما نحن فيه من مخاطر ، وما نحتاجه من جهود للخروج منها …
فحتي قبل إنفصال جنوب السودان بشهور لو وقف ناصح وطني أمين وقال مثلا إن إسرائيل هي التي تقف وراء الجهود المتسارعة لفصل الجنوب ، والعمل علي تعبئة المشاعر العدائية بين أبناء الوطن الواحد لقام ألف قلم ( وسيف ) يسفه رأيك وينعت مقالتك بنظرية المؤامرة ، ولكن وبما أنه لم يعد ما يخفي في الأمر بعدما سمحت الرقابة الإسرائيلية بصدور كتاب ( مهمة الموساد في جنوب السودان) فقد استبان كل شيء عن الدرو الكبير الذي قامت به إسرائيل من تدريب وتسليح بل وفي إعادة بناء العقيدة القتالية للجيش الشعبي بواسطة الجنرال جون طرزان الذي قال عنه سفير دولة جنوب السودان لدي إسرائيل ( *الجنوب ولد بفضل دولة إسرائيل والجنرال جون* ) والذي وبحسب الكتاب فإن الرئيس سلفاكير وجه له دعوة رسمية واستقبله إستقبال الملوك ، وأرسل خطابا لبنيامين نتنياهو يبلغه بإختيار الجنرال جون ممثلا شخصيا له في إسرائيل..
وإذ نذكر هذا المثال فإننا نذكر بمحاضرة وزير الأمن الإسرائيلي آڤي ديختر في العام 2008 في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي والتي لخص فيها إستراتيجية بلاده تجاه السودان ، ونذكر هنا ببعض النقاط التي ذكرها
_ لا يجب أن يسمح للسودان أن يصبح قوة فاعلة مضافة إلي قوة العالم العربي .
_ لابد من العمل علي إضعافه وإنتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة .
_ *سودان ضعيف ومجزأ وهش أفضل من سودان قوي وموحد وفاعل* .
_ *إنه حان التدخل في غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل لتكرار ما فعلته إسرائيل في جنوب السودان*.
_ *أمريكا مصرة علي التدخل المكثف في السودان لصالح إنفصال الجنوب وإنفصال دارفور علي غرار ما حدث في كوسوفو*..
( خليك معاي عزيز القارئ ) ولنتساءل سويا لماذا وكيف تم تصميم الفترة الإنتقالية لتكون بهذا الطول في الزمن والهشاشة في الأمن والسياسة ، فمن المعروف أن الدول والشعوب دائما تتحاشي إطالة أمد الفترات الإنتقالية التي تتميز بالضعف وإنعدام الشرعية السياسية ولذلك تلجأ دائما إلي تسريع الإنتخابات حتي لا تستغل القوي الخارجية إنعدام الشرعية السياسية لتنفيذ أجندات قد لا تتوافق مع المصالح العليا للبلاد ( ففي مصر مثلا تم تنظيم الإنتخابات البرلمانية بعد أقل من عام من سقوط نظام الرئيس حسني مبارك ، وكذلك في تونس )
أما في السودان الذي أمره عجب فنحن علي أعتاب العام الخامس من التغيير ولا يعلم أحدا متي تنتهي هذه الحالة الإنتقالية ..
منذ إنفصال جنوب السودان بدأت بعض المنظمات والدوائر المناوئة للسودان في الحديث عن ضرورة إستحداث فترة إنتقالية في السودان تقوم بمهام محددة وتنفذ أهدافا مبرمجة ، وذلك بعدما استيأست من إسقاط النظام بالقوة ، وهو ما برز بشكل جلي في تقارير مجموعة الأزمات الدولية ومنظمة كفاية الأمريكيتين والقريبتين من دوائر ناشطي قوي الحرية والتغيير ، هذه التوجهات ترجمت عمليا في وثائق للمعارضة السودانية ،حيث ورد في ميثاق الجبهة الثورية ( الإطاحة بنظام المؤتمر الوطني وإستبداله بحكومة إنتقالية مدتها ست سنوات ) ومن بين الأهداف الرئيسية إعادة *هيكلة الدولة السودانية بما فيها طبعا القوات المسلحة* ، ومن بعده جاءت وثيقة ميثاق الفجر الجديد في كمبالا لتؤكد علي ( إسقاط نظام المؤتمر الوطني وإقامة فترة إنتقالية مدتها أربع سنوات) و ( *حل جهاز الأمن وهيكلة القوات المسلحة لإستيعاب قوات الجبهة الثورية*) وتوجت تلك النوايا في ميثاق قوي الحرية والتغيير ( *تشكيل حكومة إنتقالية قومية من كفاءات وطنية تحكم لأربع سنوات*) مهمتها ( *إعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية*) ..
ومن الواضح أن إختيار مدة الأربع سنوات تم إختياره من دوائر غربية لها مصلحة في بقاء السودان لفترة طويلة دون شرعية سياسية أو رقابة شعبية علي الحكم ،حتي يتسني تفكيك عناصر القوة المعنوية والمادية في البلاد ، وهو ما صادف هوي لدي المكونات السياسية السودانية بالإستئثار بالحكم لفترة طويلة دون تفويض إنتخابي وتحت دعاوي تفكيك النظام السابق ، والذي هو نفسه وللمفارقة يرجع في فكرته الأولي لتلك الدوائر التي إضطلعت بمهمة توحيد قوي المعارضة السودانية ، ففي تصريح شهير في العام 2017 قال جون برندر قاست رئيس مجموعة الأزمات الدولية ( *يجب الضغط المالي علي النظام بوقف التدفقات المالية غير المشروعة وينبغي أن نعمل علي حصر الأصول وإستردادها للشعب السوداني متي أمكن ذلك* ) ، وهو ما ورد في تقرير كفاية التي ينشط فيها عمر قمر الدين في نفس العام ( *يجب علي الولايات المتحده الامريكيه الضغط لإسترداد الأصول وإعادتها للشعب السوداني*) ..
( 3 )
والآن عزيزي القارئ دعنا نري كيف أثر تغييب الشرعية السياسية علي بلادنا خلال الأربع سنوات الماضية ، والتي غيب فيها وبشكل متعمد أي جهاز للرقابة الشعبية علي أعمال الحكومة ومراجعة قراراتها ، والمحاسبة علي أخطائها ، ونتساءل مالذي منع قوي الحرية والتغيير من تكوين برلمان بالتعيين ، ولماذا تباطأ شريكا الحكم عن تنظيم إنتخابات يقول الواقع أنهما يضمنان نتائجها حينذاك ؟
لقد ترتب على تغييب الشرعية السياسية كوارث وطنية أخطرها نشر ثقافة التسيب الإداري وإستشراء الفساد الممنهج وإضعاف أجهزة الدولة وإنتشار السلاح ، وتغييب العدالة ، واستهداف الثوابت المجتمعية رموزا وتقاليد بالتسفيه والتشنيع ، وتبعا لذلك :
_ تم إتخاذ أخطر القرارات المصيرية كالتطبيع مع إسرائيل ، ورفع الدعم عن السلع وتغيير المناهج وتعديل القوانين دون أي تفويض أو رقابة شعبية ..
– تدهورت الأوضاع الأمنية بصورة مخيفة حتي احتل السودان رابع أدني مرتبة من بين الدول العربية متقدما علي اليمن ، ليبيا ، وسوريا فقط في مؤشر السلام العالمي بحسب تقرير معهد السلام والإقتصاد العالمي للعام 2022…
– تراجع الإقتصاد السوداني بصورة مخيفة خلال الأربع سنوات الماضية ، إذ احتل المرتبة ( 18 ) إفريقيا ، بعدما كان السادس يوم تسلم حمدوك الوزارة ، وانخفضت قيمة العملة المحلية بنسبة 1000% بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ، وانخفض متوسط دخل الفرد من 1040 دولار في العام 2018 ليكون أقل من 500 دولار في العام الحالي ، كما ارتفع التضخم لمستويات قياسية أدت إلى تآكل مدخرات البنوك ووقوفها علي حافة الإفلاس ..
– ونتيجة لتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية وإغلاق الجامعات تواصلت هجرة السودانيين للخارج بأرقام مهولة بحثا عن الأمان والتعليم ، وهروبا من المخاوف المتزايدة من إنفجار تتزايد إحتمالات حدوثه مع تفشي خطاب الكراهية بين المكونات الإجتماعية والسياسية المختلفة .
– سمحت هذه الأوضاع بتدخل أجنبي كثيف في شأننا الوطني من لدن ذلك السفير الذي صاغ بيان إستقدام البعثة الأممية لبلادنا ومرورا بكل التدخلات المشينة في قضايا الداخلية ، وللأسف الشديد صارت بلادنا مستباحة بالكامل للسفراء الأحانب حتي أصبحنا لا نستطيع أن نقضي أمرا دون إستشارتهم ( أو إملائهم علي الأصح ) ..
( 4 )
وبما أن من صمموا الفترة الإنتقالية قد قصدوا إضعاف عناصر القوة المعنوية والمادية لبلادنا حتي يسهل عليهم تنفيذ مخططاتهم هل يحب علينا أن نتجاوب مع هذه الخطة إلي نهايتها بينما نري المصير المحتوم الذي ينتظرنا وهم يدغدغون مشاعرنا بالمدنية المتوهمة والديمقراطية الكذوب ؟
وهل علينا أن نصدق أن السفراء الذين يتحكمون في قرارنا الوطني اليوم أنهم حريصون على مصلحة بلادنا أكثر منا ، وهل سنرضي أن نكون أمة يكتب مصيرها وقدرها الآخرون بينما نحن وقوفا نتفرج علي تسويات تطبخ تحت نيران المؤامرة وعلي تنور الفتنة ؟
وألا تكفينا وتعظنا النماذج التي رأيناها أمام أعيننا في بلدان مجاورة ، حيث كثر مبعوثوا السلام وقل السلام ، وكثر الحديث عن المدنية والديمقراطية بينما إنتعش سوق السلاح ، وكل ذلك بسبب ( الأصدقاء) من شاكلة الرباعية والترويكا ( اللهم لا تبتلينا بأصدقاء لا نحب مصادقتهم ولكنهم يصادقوننا بالقوة )
هذه أسئلة مطروحة لكل أبناء الوطن بجميع توجهاتهم وإنتماءاتهم من أولئك الذين لا يرضون لأنفسهم الدنية في دينهم ووطنهم ، والذين يعرفون جيدا أن الأوطان لا تبني إلا بتكاتف أبنائها ، وأن المخرج الآمن لنا هو في صياغة مشروع وطني خالص مهما عظمت تكاليف صياغته ، ويؤمنون كذلك أن الخارج مهما صفت نيته فلا ينبغي له أن يتدخل في مشروعنا الوطني ..
وأي تأخر عن الإستجابة لإستنقاذ الوطن ستكون عاقبته وخيمة ووبيلة ( *وإن الكلام اليوم وليس به غدا ، وأن النظر يحسن اليوم ويقبح غدا ، وأن القتال يحل اليوم ويحرم غدا، *إنهضوا إلي* ( *وطنكم* ) *وعصمة أمركم*)
*ولما تأخر المنادون عن الإستجابة لنصرة الخليفة عثمان بن عفان وقعت الكارثة فلا خليفة أنقذوا ولا خلافة صانوا ..