وَجدْتُني مُسْتغرِقًا في تأمُّلِ الشَّاليهاتِ الفَخْمَةِ التي لا تَنْتهي على طولِ السَّاحلِ الشَّماليِّ لِمِصْرَ الغاليةِ؛ وَإذْ بالسَّيَّارةِ تمضي بِهُدوءٍ، مُراعِيةً كاميراتِ ضبطِ السُّرعةِ على ذلكَ الطَّريقِ إلى مدينةِ “العلمين”، وقدْ خرجْنا لقضاءِ بعضِ حوائجِنا،
بينما الرِّفْقَةُ سادرون في أحاديثِهم، وأنا في عالمٍ آخرٍ، مَشْدوهًا مِن جَمال زُرْقَة البحرِ هناكَ، مالئًا رِئتيَّ بِهَواءِ البحرِ النَّقي، بما لَم أتوقَّعْهُ أنْ يكونَ بهذهِ البرودةِ الخفيفةِ البتةَ في شَهْر أغسطس، لأُشدَه أخرى وروعة المباني التي تمدَّدت واستطالت على طول الشَّاطئ، ورافقتنا إلى عشرات الأميال ولم تنتهِ.
فجأةً، اُسْتُوفِزتْ حَواسِّي، وخرجتُ مِن تلك التَّأمُّلاتِ، وأنا أُحدِّقُ في لوحةٍ حجريةٍ -بالكادِ أقرؤها- مكتوبٍ عليها: “المعظمة الألمانية – العلمين”، لأنتبهَ إلى أنَّها مقبرةُ الجنودِ الألمانِ الذين هُزِمُوا هنا في إحدى أَشْرسِ معاركِ الحربِ العالميّةِ الثَّانيةِ بينَ قائدِهم الأشهرِ (إرفين رومل)، الذي قاد جيش دول المحورِ (ألمانيا النّازية وإيطاليا الفاشيّة) مع القائد البريطانيّ -الذي كان يقلُّ إمكاناتٍ وشهرةً عن الدَّاهيةِ الألماني- (مونتجمري)، الذي قاد جيش دول التَّحالف (بريطانيا، فرنسا، الهند، نيوزيلندا، وأستراليا).
عدَّلت من جِلستي، لأتلقَّف سيلَ المعلوماتِ المكتنزةِ -التي تفجَّرت مِن الذَّاكرة- من قراءات المراهقةِ عن الحربِ العالميةِ الثَّانيةِ، ولاحقًا من متابعةٍ دقيقةٍ للقنواتِ الوثائقيّةِ الَّتي غطَّت تلك الحربَ؛ ليبرزَ ثعلبُ الصحراءِ (رومل) بوجهِه الألماني القحّ، وقد سحرني من أزمنةِ اليفاعةِ التي قرأتُ بمهاراتِه العسكريّةِ الفذَّةِ، وقد كبَّد قوات الحلفاءِ الهزيمةَ تلوَ أُختِها في مناوراتٍ عبقريّةٍ عسكريّةٍ في صَحراء ليبيا، لا تزالُ تُدرَّس إلى اليومِ، وحقَّق شهرةً وشعبيّةً كبيرةً داخل ألمانيا، وبات أسطورةً،
ولولا إصرارُ (هتلر) عليه باحتلالِ مصر، لما هُزِم تلك الهزيمةَ الشَّنيعة، وقد احتجّ -عبثًا- بانعدام الغطاءِ الجويِّ، وشُحِّ المؤونةِ لبُعدِ مركزِ قيادته في “طبرق” عنه بمئات الأميالِ، بينما كان خَصْمُه يَبْعُدُ فقط تسعينَ ميلًا في “الإسكندريةِ”، متفوِّقًا عليه بالطَّائرات؛ ليخسرَ خسارتَه المدوِّية هُناك في “العلمين” – حيث أَمُرُّ الآنَ – وحيثُ أطالعُ هاتِه المقبرةَ التي تضم رُفات 4200 جنديٍّ ألمانيٍّ، يُنظَّم لهم حفلٌ سنويٌّ كلَّ عامٍ لإحياءِ ذكراهم.
قصَّة ذلك القائدِ الألمانيِّ الأسطورةِ (رومل) لم تنتهِ بهزيمتِه هُنا في “العلمين”؛ إذ عندما عاد إلى ألمانيا اتَّهمه (هتلر) بالمشاركة في مؤامرةِ اغتيالِه، وخاف من شعبيّته الطّاغية؛ لذلك خيَّره -صاحب الشَّنب الأشهر في التأريخ- بينَ أْن يُحاكَم بتهمةِ الخيانةِ العظمى أو ينتحرَ، وتبقى له أوسمتُه ونياشينُه، ويُحافظ على عائلته؛ ليختارَ الأخيرةَ، ويودِّع زوجتَه وابنَه، وينتحر بتجرُّعِ “السّيانيد”، وتُقامُ له جِنازةٌ عسكريّةٌ مَهيبةٌ.
زَفرْتُ زفرةً أودعتها تلكم القراءاتِ التي دَهمتني، وكَم تمنَّيتُ أن أملكَ الوقتَ لأذهبَ للمغارةِ التي بقيَ فيها (رومل) وأدارَ معاركَه، وحوَّلتها الحكومةُ المصريّةُ -مشكورةً- لمُتحفٍ؛ بَيْدَ أنَّ الوقتَ – دومًا – لا تملكُه، وأنت برفقةٍ كريمةٍ من خُلَّصِ أحبَّتِك؛ لأنتبهَ إلى أنَّنا وصلنا إلى قلبِ مدينةِ “العلمين” وأُفاجأُ بِزِيّ أهلِها؛ إذ الغالبُ عليهم لبسُ الثِّيابِ التي نلبسها.
وإذ تُنصت إلى أحاديثِ أهلِ تلك المنطقةِ؛ لتُميَّزَ فورًا أنَّ لهجتَهم التي يتحدثون بها لا تُشبه اللَّهجةَ المصريّةَ اللَّذيذة التي تشرَّبْناها من الأفلامِ، ولا الصَّعيديّة الّتي احتككنا بها مع أهلِها… لغةٌ أقربُ إلى لهجةِ أهلِ ليبيا الشّرقيّةِ!
ويسَّرَ اللهُ أنْ نختلفَ إلى بعضِ المعارفِ في تلك الجهاتِ من البدو العربِ، الذين رحَّبوا بنا، وأداروا علينا الشّاي الثّقيلَ في فناجيلَ صغيرةٍ خاصّةٍ، بعد أن تناولنا إفطارًا شهيًّا، قاموا بإعدادِه مباشرةً، وتبادلنا معهم الحديثَ، وقالوا إنَّهم قبائلُ هذه الجهاتِ، وإنّ أجدادَهم بقايا من جيش عُقبةَ بنِ نافعٍ، وتعودُ أَرومتُهم إلى قبيلة “سُليم” عندنا في السُّعوديّة.
وأنا بينهم، ولكأنّي مع أصدقائي من القصيم أو القويعية، وأَيْمُ اللهِ إنَّ ذلك الشّعورَ غمرني؛ إذ القومُ مِن عُشَّاقِ الصَّحراء، ويستمتعون جدًّا بـ”الكشتاتِ”، وهم أهل كَرم ووِفادة، حتّى إنَّهم لم يتركونا أبدًا إلا أن نعدهم بالمجيء، وقالوا إنَّ الغداءَ سيكون على “طعس رمل”، يعرفونَ عشقَنا تلالَ الرِّمالِ الذَّهبيّةِ، ولا أنسى أنَّنا مَدَدْنا ببعض الجنيهاتِ بعضًا من أبناء تلك المنطقةِ كهدية، فقبضوا أياديهم، واعتبروها نوعًا من الإهانةِ.
عندما سألتهم عن سبب لبسهم الثِّياب، أجابني أخونا غيث الشرمي بأنَّ البدو لا يرتاحون إلا في الثّياب، وأنّ الملابس الفضفاضة تجدها في كلّ عرب الصّحراء في شمال إفريقيا كلّها، وحدّثني عندما سألته عن موقف أجداده في معركة “العلمين” بأنّه أدرك جدَّته وهي تحكي أنّهم كانوا يُطفئون الأنوارَ والمشاعلَ ليلًا؛ لأنّ الطّائرات البريطانيّة كانت تقصف أيَّ مكانٍ ينبعثُ منه الضَّوء، وأنَّ أجداده شاركوا مع (عمر المختار) في الحرب ضدَّ إيطاليا، وهم مَن كانوا يهرِّبون له الأسلحة في جهادهم ضد “الفاشيست”.
كانت جَلسةُ لم أودُّ أن تنتهي، من كرم وحفاوة المضيفين، فما أجمل أن تكتشف مثل هذا الجمال والخلق والنقاء! وكم تمنّيتُ على الدّراما المصريّة أن تُظهر كرم هؤلاء العربِ، وأسلوب حياتهم، كما فعلت كثيرًا مع الصّعايدة الذين عرفنا دقائق حياتهم، عكس هؤلاء الفُضلاء.
عندما عدنا إلى الشَّاطئ الأزرق السَّاحر، لم تستطع الرّفقة الكريمة مقاومة ذلك السّحر، فنزلنا للسّباحة، ولم ننتبه إلى اللّوحات التي تقول إنّ الوقت وقت تكاثر قناديل البحر، التي لم تُقصِّر في لسعنا بتلك اللّسعات المُوخِزة التي تقافزنا منها ألمًا، وهربنا متضاحكين إلى المسبح!
منطقة السّاحل الشّمالي في مصر؛ منطقة ساحرةٌ بحقٍّ، وستكون منطقة مزدهرة بسبب المطار الدولي الذي سيُقام فيها، ومصر تطوَّرت كثيرًا خلال السَّنوات الأخيرة، خصوصًا في مجالي الطّرق والمباني، وأبهجني ما رأيته هناك.
رفقةٌ كريمةٌ، وبلدٌ جميلٌ، وشعبٌ كأهلك، وتأريخٌ أمامك، وشاطئٌ ساحرٌ.. يا لها من رحلة استجمام!