في علم الرياضيات يكتسب العدد قوة متزايدة بحسب “الموقع” الذي يحتله في سلسلة من المواقع التصاعدية. فالعدد “3” مثلاً يساوى “ثلاثة” لا غير طالما هو في خانة الآحاد. ولكنه قيمته ترتفع إلى “30” إذا تحول إلى خانة العشرات، والى “300” إذا تحول إلى خانة المئات، وهكذا تتضاعف قيمته إلى ما لا نهاية كلما صعد في سلسلة المواقع الرياضية. أما من حيث الرسم (ومن حيث القيمة الابتدائية) فان العدد “3” سيبقى “3”، كما هو معلوم.
قلت: أيوجد مثيل لهذه الخاصية الرياضية في حقول الاجتماع والسياسية؟ أترتفع قيمة الإنسان بحسب الموقع؟ ألو أخذنا مثلاً جندياً أغبراً من الجالسين أمامنا ووضعناه على رأس صف من زملائه، وألبسناه زياً خاصاً، ثم أوكلنا إليه بعض المهام، كحفظ النظام أو كتابة تقارير عن المشاغبين، هل سنلاحظ أن “الموقع” الجديد قد وفّر له “قيمة” إضافية؟ هل ستلاحظ أن وضعه في خانة “الشاهد/الرقيب” قد أكسبه “قوة” إضافية تفوق ما يتوفر له إن ظل جالساً في الصف مثل الجنود الآخرين؟
أظنك ستقول نعم، وقد تقول إن هذا مما تدركه العامة. فمن يعملون مثلا في تجارة العقار يعرفون أن قيمة المبنى ترتفع كثيراً بحسب “الموقع” وليس بحسب المساحة وحدها. وستذكرني بأن العسكريين يدركون أن هناك “مواقع استراتيجية” إذا فُقدت ستفقد المعركة كلها. ويمكنني أن أُسايرك في هذا فأذكرك ببعض أحداث السيرة النبوية، فقد كان الرسول(ص) يدركك قيمة “المكان الاستراتيجي”، إذ “أمّر على الرماة يوم أُحد عبد الله بن جبير، وعددهم خمسون رجلاً فقال: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك”. لم يلتزم بعضهم بالأمر فغادر المكان. لاحظ ذلك خالد بن الوليد (أحد قادة المشركين يومذاك)، فانتهز اللحظة الاستراتيجية، ووجه ضربة لجيش المسلمين في “المكان” الاستراتيجي، كادت أن تلحق بهم الهزيمة.
قلت: ولكن إذا سرنا على هذا النحو من النظر الوضعي، وذهبنا إلى أن “الموقع” وحده هو الذي يحدد القيمة، فيمكن أن يقال إنه لا يوجد وفقاً لهذا المنطق فرق بين الانسان و”الروبوت”. لأننا إذا وضعنا “روبوت” أمام التلاميذ، وأوكلنا له كتابة تقرير عن المهرجين والمشاغبين لفعل ذلك بصورة مرضية، فهل نذهب إلى القول بأن الروبوت قد اكتسب قوة إضافية لمجرد الموقع والزى المشابه للإنسان؟ إن “الروبوت” لم يكتسب قيمة إضافية لمجرد وجوده في المكان، وإنما استمد قيمته أولاً مما وضع في “داخله” من البرمجيات الدقيقة، كما استمد قيمته ثانياً من “المعرفة المسبقة” للتلاميذ بأن من وراء الروبوت يوجد مدير المدرسة. فالقيمة الإضافية تحسب للمدير ولصانع البرمجيات وليس للآلة المصنوعة.
ويمكنك أن تُدرج في هذا السياق ما قص القرآن من خبر نوح مع قومه، إذ عابوا عليه أن أتباعه كانوا من “أراذل القوم”، فكان مما أجابهم به: “ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً، الله أعلم بما في أنفسهم” (هود:31). فقيمة الانسان الحقيقية توجد في داخله؛ أي فيما ينعقد عليه قلبه وتكسب يداه. ولقد تفطن “أرباب السلوك” لمثل هذه الإضاءات القرآنية فوضعوا قاعدة سلوكية هامة مفادها: “أن المقامات مكاسب والاحوال مواهب”؛ أي أن الانسان لا ينال فضلاً زائداً على الآخرين لمجرد أن يولد في مكان رفيع أو يوجد فيه أو يوضع فيه؛ كما أن قيمته لا ينبغي أن تنحط لمجرد أنه يولد أو يوضع في مكان وضيع. فالإنسان ينال الفضل وتكون له قيمة إضافية وفقاً لما ينعقد عليه قلبه وتكتسب يداه، وليس له إلا ما سعى. فبقدر ما يكدح ويجتهد ويجاهد بقدر ما ينال “مقاماً” محموداً. أما “الأحوال” فهي هبات من الله الكريم الوهاب.
وكما أن هناك “مكاناً” استراتيجياً، فهناك أيضا “زمان” استراتيجي. أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: “لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ” (الحديد:10)، فقيمة دينارٍ واحدٍ يُبذل في لحظة الشدة والحاجة تكون أعلى من قيمته حينما تزول الشدة ويعم الرخاء، وقيمة جرعة من الدواء تُقدم لمن أقعده المرض تكون أعلى من قيمتها بعد أن يقف على رجليه. أي أن الفعل الواحد يفعله الانسان في المكان والزمان الضروريين يكون له أثر مضاعف. وكأن القرآن يشير إلى هذا أيضا حينما يُذكّر المؤمنين: ” إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين” (الانفال: 65). والمفردة المفتاحية في هذا السياق هي “الصبر”، والصبر في هذا المقام لا يقصد به مجرد القعود والسكون وإنما يقصد به “الصبر الاستراتيجي”، وهو فعل ثلاثي الأبعاد، حيث يحتفظ المؤمن (أولاً) بمكانه من الله؛ ويحتفظ بما أمده به من مصادر القوة وأدواتها فلا يشتتها أو يغفل عنها، ويتموضع (ثانياً) في “المكان” المناسب، وينطلق (ثالثاً) في “اللحظة” المناسبة، فتتضاعف بذلك قوته إلى عشرة أضعاف ويحقق النصر.
وبناءً على هذا فيمكن أن يقال إن أصحاب عبد الله بن جبير تسببوا في هزيمة المسلمين يوم أحد لتخليهم عن المكان الصحيح، ولانطلاقهم في اللحظة الخطأ، ولتقهقرهم عن “مقام الصبر” الاستراتيجي. كما يمكن أن يقال إن الرجل “النجار” الذي جاء من “أقصى المدينة يسعى” (سورة يس)، وصارت قصته قرآنا يتلى، قد جاء في اللحظة المناسبة وفى المكان المطلوب، واتخذ الموقف الصائب، ودفع الثمن الباهظ، فتحول بهذا الفعل الاجتماعي الجسور من مجرد “نجار” في أطراف المدينة إلى “شاهد” على الناس بالحق، وهي شهادة “تاريخية” ارتفع بها من منزلة الاصفار إلى منزلة العشرات.
الخلاصة: إن من يريد أن يكتسب موقعاً محموداً في الحياة عليه أن يغادر موقع الأصفار والآحاد؛ عليه أن يستيقظ مبكراً حتى يسمع النداء فلا يغيب عن لحظة الحضور المبارك، حيث يكتب له الفوز والنجاة في الدارين إن شاء الله، مع الصديقين الشهداء، وكل عام وأنت بخير