وكالات : كواليس
ضمن جهودها المستمرة الهادفة إلى إحياء تراثها الوطني وتمكين الجميع من الوصول إليه، نجحت السعودية في تسجيل عنصري “حداء الإبل” و “البن الخولاني السعودي” ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم الثقافة “اليونسكو”.
تسجيل “حداء الإبل” و”البن الخولاني” جاء خلال الاجتماع الـ17 للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونسكو قبل أيام بالعاصمة المغربية الرباط، ويمثل تتويجا لجهود فريق سعودي مشترك قادته هيئة التراث وبدعم من وزارة الثقافة، واللجنة الوطنية للتربية والعلوم والثقافة، والمندوبية السعودية الدائمة لدى اليونسكو، وهيئة الطهي، والجمعية السعودية للمحافظة على التراث “نحن تراثنا”.
والتراث الثقافي غير المادي، يقصد به الممارسات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية يعدها المجتمع، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي، وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلا عن جيل يبدعه المجتمع بصورة مستمرة من خلال تفاعله مع بيئته وتاريخه، وهو ينمي الإحساس بالهوية ويعزز احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية.
وتتم المحافظة على هذا التراث عبر حصر عناصره وتوثيقها والتوعية بها وحث المجتمع على الاستمرار في ممارستها والاحتفاء بها ونقلها للأجيال المقبلة.
وتم قيد “حداء الإبل” -وهو تقليد شفهي للنداء على قطعان الإبل- بعد استيفاء شروط الملف الذي تقدمت به كل من السعودية وعمان والإمارات، في حين جاء اعتماد “البن الخولاني” بناء على ملف منفرد تقدمت به المملكة.
فن شعبي تتناقله الأجيال
ويُعرف حداء الإبل بأنه أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية ووسيلة للتواصل بين الإبل وراعيها، وهو أسلوب يستخدمه الرعاة في مناداة الإبل لجمعها، كما أنه نوع من الشعر الغنائي تطرب الإبل لسماعه، حيث تعد هذه الحرفة جزءا من الموروث الشعبي السعودي الذي يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل.
وسابقا، أدرجت اليونسكو القط العسيري والمزمار والنخلة وحرف السدو والصقارة والعرضة النجدية؛ ضمن أشكال العناصر التراثية غير المادية، وهو ما يعكس المخزون السعودي من التراث والصناعات والهوايات التي تشتهر بها مناطق المملكة، بعضها فنون تقوم على العمل باليدين كالسدو، وأخرى تؤدى بالحركات على إيقاعات الطبل وأهزوجات شعبية كالعرضة النجدية.
ويأتي الحرص السعودي على تسجيل حداء الإبل نظرا للمكانة المرموقة التي تحتلها الإبل في السعودية وعند الإنسان العربي، بالإضافة إلى مكانتها في الأدب العربي ودورها في انتشار الجنس العربي خارج الجزيرة العربية.
ويعد الحداء أحد الفنون الشعبية التي تميزت في المملكة ولا سيما في البيئة الصحراوية، ويعود تاريخه لزمن مضر بن نزار، الجد الـ17 للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ سقط عن بعيره وانكسرت يده وصاح “يا يداه! يا يداه!”، فاجتمعت الإبل حوله وطاب لها السير معه. فاتخذ العرب قوله ذلك. وتحول الحداء من مجرد همس أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري.
وعن الحداء يقول محمد عبد الله الحربي المتحدث باسم مهرجان الملك عبد العزيز للإبل إن الإبل تعرف الصوت، ويكاد يكون وسيلة تواصل مهمة بين الناقة وصاحبها، وهو تواصل قام منذ استأنس الإنسان الإبلَ.
ويوضح الحربي، في تصريحات لوسائل إعلام سعودية الأسبوع الماضي، أن حداء الإبل يعرف أيضا بأسماء أخرى، منها الهوبال أو العوبال، ولكل حالة صوت تعرفه الإبل، فهناك دعوة إلى الماء، ودعوة إلى المرعى، وكذلك دعوة إلى المسير.
لغة مشتركة
ويضيف أن الإبل لها صوت يطربها، وهي تشجن به، وبحور بعض الشعر ابتدعت من إيقاع مشيها، معتبرا أن الحداء هو الصوت المصاحب للإبل في حالة من حالاتها التي تعيشها مع مربيها، وهي نظم أقل من الشعر ذي وزن وطبقة صوتية مسجوعة انطلقت بكلماتها المعروفة نسبة إلى مضر بن نزار الجد الـ17 للرسول صلى الله عليه وسلم.
ووفقا للرواية التاريخية فإن صراخ الألم من مضر أصبح يتناغم مع مسير بعيره إليه حتى وصله، وهو ما يذكره المؤرخون لتطور الشعر العربي في بحوره المتعددة والتي وصف بعضها على مسير الإبل كما في الهجيني أو بعض التفعيلات القصيرة أو الرجز المعروف بتناغمه مع مسير الإبل.
وتشير مصادر أخرى إلى مسميات عدة ومختلفة لحداء الإبل، ومنها “التدوية” التي تعد أصل الحداء، وتعد البداية لكل أنواع الحداء.
ويرى الحربي أن حداء الإبل يمثل عنصرا ثقافيا سعوديا أصيلا ارتبط بتاريخ وحياة السعوديين عبر الأجيال، ويكشف عن علاقتهم بالكائنات المحيطة، ويجسد شكل تفاعلهم معها، كما يمثل دلالة عملية على عمق الارتباط الوجداني الوثيق الدي يربط أهل الجزيرة العربية بالإبل، وذلك باعتبار الحداء لغة مشتركة ومفهومة للتواصل.
وفي نفس السياق، نجحت المحاولة السعودية الجادة التي بدأ العمل عليها منذ عام 2019 في انتزاع اعتماد اليونسكو وإدراجها “المعارف والممارسات المرتبطة بزراعة البن الخولاني” في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي، بعد استيفاء شروط اعتماد الملف الذي تقدمت به المملكة، ليكون هذا الاعتماد اعترافا دوليا يُرسّخ قيمة البن الخولاني السعودي وخصوصيته عند السعوديين.
ويتزامن اعتماد البن الخولاني ضمن قائمة التراث غير المادي في اليونسكو أيضا مع تسمية عام 2022 عاما للقهوة السعودية، وهي مبادرة أطلقتها وزارة الثقافة السعودية، لارتباط القهوة بالإرث الثقافي للمملكة عبر تاريخ حافل بالعادات والتقاليد، وقيم الكرم والضيافة، والحضور الإنساني والجمالي والفني في الأغاني والقصائد واللوحات، حتى أصبحت عنصرا رئيسا في الثقافة والموروث الشعبي السعودي.
مكانة القهوة وإرثها التاريخي
ويعزز التسجيل مكانة القهوة السعودية، والتعريف بالسعوديين وثقافتهم على المستوى الدولي، بسبب كون البن الخولاني إرثا تاريخيا واجتماعيا مرتبطا بعادات وتقاليد ومظاهر الضيافة والاحتفاء والشعر، وجزءا من الحياة، وسلعة للتداول عند السعوديين بشكل عام.
ويحظى البن الخولاني بعناية شديدة، حيث يأتي البن الخولاني بعد تحضير القهوة باللون الأصفر الذهبي، تزينه حبات الهيل والبهار أو الزنجبيل التي يضعها صنّاع القهوة السعودية لتضيف نكهة ورائحة زكية.
وضمن الاهتمام بهذا المنتج، وتعزيز المعارف والممارسات المرتبطة به، أعلن صندوق الاستثمارات العامة السعودي عن إطلاق الشركة السعودية للقهوة، مستهدفا رفع إنتاج البن السعودي بنسبة تفوق 700% سنويا، حيث ستعمل الشركة على رفع القدرة الإنتاجية للبن السعودي من 300 طن إلى 2500 طن سنويا.
وتشير أحدث الإحصائيات إلى أن الناتج المحلي من محصول البن الخولاني السعودي يتوزع في المحافظات الجبلية بمناطق جازان والباحة وعسير، حيث بلغ عدد مزارع البن بها أكثر من 2500 مزرعة، تضم ما يقارب 400 ألف شجرة بن.
واهتمت المملكة بشكل كبير بالبن الخولاني، حيث تزخر جبال جازان جنوب المملكة بثروات زراعية، فتحتضن أكثر من 70 ألف شجرة بن، يزرعها 600 مزارع وتنتج قرابة 500 طن سنويا.
ويعد البن الخولاني الذي تنتجه المملكة من أجود أنواع البن في العالم، كما أكدت خطوة تسجيله على قيمته العالية، وتجذره في الثقافة السعودية باعتبار تاريخ زراعته الممتد لأكثر من 8 قرون في جنوب المملكة.
وتصنف المملكة من أكثر دول العالم استهلاكا للبن لارتفاع معدل استهلاك الفرد السعودي للقهوة، حيث يبلغ معدل إنفاق السعوديين على إعداد القهوة أكثر من مليار ريال (277 مليون دولار)، بواقع يتجاوز 80 ألف طن.
ويقول الباحث في التراث السعودي بندر الزهراني إن تراث أي شعب، هو الموروث الثقافي المتراكم لأجياله المتعاقبة، خلال حقب التاريخ والعابر لها أيضا إلى الجيل الحاضر والأجيال اللاحقة.
ويوضح الزهراني، في تصريح للجزيرة نت أن الموروث الثقافي يتضمن خبرات الحياة المتنوعة التي استقرت عليها الجماعات البشرية كأساليب مثلى في تدبير متطلبات عيشها الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وملبس وتنقل وتعامل مع الآخر من ثقافة مختلفة، ويحفل كل موروث ثقافي لشعب من الشعوب بمكونات متنوعة، تنبثق من الاهتمامات الجماعية للبشر في أي مجتمع.
ويشدد على أن الموروث الثقافي السعودي يمتاز بثراء مكوناته، المستمدة من تجارب الأجداد في معايشة الحياة، ومن هذه المكونات “حداء الإبل” والمهارات والمعارف المرتبطة بزراعة البن الخولاني، الذي أدرجتهما منظمة “اليونسكو” في قائمتها التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي.
وينوه إلى أن الجمعية السعودية للمحافظة على التراث بذلت جهودا كبيرة من أجل توثيق وحصر الممارسات والمهارات المرتبطة بفن حداء الإبل، واللقاء بممارسيه من رعاة وملاك للإبل بمختلف مناطق المملكة وذلك في إطار العمل على تسجيل ملف حداء الإبل على قائمة التراث الثقافي غير المادي لدى اليونسكو.
ويتوقع الزهراني أن يعود إدراج هذين الموروثين السعوديين بقائمة “اليونسكو” بفوائد دولية وثقافية جمة على المملكة، منها التعرف على ثقافة المملكة وتاريخها، ومدلولات مكونات موروثها الثقافي ومن بينها “حداء الإبل”، بالإضافة إلى احتلال المملكة لجزء من الاهتمام الدولي بالموروث الصوتي للشعوب، لافتا إلى أن الحداء يعبر عن طريقة تعامل خاصة في استئناس الإبل، ويعكس نمط من العلاقة الناجحة معها، وينبع تفرده من قدرة الرعاة على استمالة الإبل وتوجيهها.
ويؤكد أن القهوة تمثل إرثا تاريخيا وثقافيا منذ القدم، وتدل على قيم نبيلة يتميز بها الإنسان العربي والسعودي كالكرم وحسن الضيافة، إذ كانت القهوة وما زالت جزءا أساسيا في أي لقاء أو اجتماع بين أفراد المجتمع في السعودية.
وبإدراج “حداء الإبل” والبن الخولاني، ترتفع عناصر التراث الثقافي غير المادي التي نجحت السعودية في تسجيلها ضمن القائمة إلى 11، وهي: المجلس، القهوة العربية، العرضة النجدية، المزمار، الصقارة، القط العسيري، النخلة، حرفة السدو، الخط العربي، حداء الإبل، والبن الخولاني السعودي، والتي تتماشى مع مستهدفات “رؤية السعودية 2030” وفي إطار الجهود الوطنية لتوثيق التراث الوطني، وتسليط الضوء عليه محليا وعالميا بما يُعزز فرص استمراره وضمان استدامته.