في كأس العالم الماضية؛ أخرجت سويسرا منتخب صربيا، على يد اللاعبين “شاكيري” و “تشاكا”، وذهبا للجماهير الصربية وهما يرسمان بأيديهما رأسي النسر، وعاقبهما الفيفا.
في هذه النسخة من كأس العالم كذلك، أخرجت سويسرا منتخب صربيا، واحتفل اللاعبان، بدون رسم النسر، ولكن ما حكاية علامة رأسي النسر؟كتبت ذلك في كتابي “14 يوما في كوسوفا” عن تلك العلامة، وها هي المقالة التي كتبتها قبل 4 أعوام..
“شاكيري” و “تشاكا”.. وعلامة رأسي النسر.
أعادتني حمَّى كرة القدم التي تجري في روسيا الآن، لذكرياتي مع كأس العالم، ففي طفولتي أدركت “ماريو كمبس” و”أرديلس” والكوكبة الذهبية التونسية من “تميم الحزامي” و”طارق ذياب” و”نجيب غميض” الذين رفعوا رأس العرب إذاك في “بيونس أيرس”، وفي يفاعتي أدركت عام 82م “سقراط” و”زيكو” و”باولو روسي” و”بلاتيني” والكوكبة الذهبية الأخرى الجزائرية رفاق “الأخضر بللومي..”.أختلس أوقاتا هاته الأيام لأتابع بعض المباريات التي أهتم، وكنت محظوظًا بمشاهدة مباراة سويسرا وصربيا، ورأيتني أتقافز كما في تلكم الصبوات مع هدف “شاكيري” القاتل، وجريه وهو يرسم علامة النسر ذا الرأسين، وهي التي دعتني لتسطير هذه المقالة..
قبل شهرين تماما كنت في ربوع كوسوفا أرض النسور السوداء، وأينما يمَّمتُ بصري تجاه الناس في ساحات عاصمتها، أو في مدنها الجبلية المذهلة، وعلى ضفاف أنهارها البديعة؛ رأيت القوم هناك كهولًا وصبية وفتيات، عندما يلتقطون الصور، يقومون -أحيانًا- بعكس راحتي أياديهم بعد بسطهما، وتدويرهما حول الابهامين، ورفعهما للصدر، ومن ثم تلتقط الصورة، ووقتما استفسرت من رفقتي عن مغزى هاته الحركة، ولماذا يحرصون عليها، أجابوني بأنها رمزٌ ل”النسر ذو الرأسين”، وهو شعار ألبانيا الكبرى..
أتذكر -كذلك- أنني أينما اتجهت في كوسوفا الخلابة؛ أكانت مواقع أثرية أم متاحف أم محالًا تجارية أو حتى مطاعم أو كافيهات، فضلًا عن المؤسسات الرسمية؛ ألفيت العلم الأحمر وبوسطه النسر البيزنطي ذو الرأسين المتعاكسين، ومعظم أهل كوسوفا هم من الألبان، وبهم اعتزاز لقوميتهم يصل للتعصب أحيانًا، ومن عجيبٍ أنَّ أول من استخدم هذا العلم هو البطل القومي لديهم “اسكندر بيغ” (بك) في القرن الخامس عشر، الذي لم يعبّره العثمانيون كأبيه، وكان ملكًا ألبانيًا سليل ملوك، فانقلب عليهم وحاربهم واستقل عنهم..
تعاقب على استخدام العلم، معظم الرؤساء الألبان الذين أتوا بعده، وبات رمزًا لقومية الألبان، لذلك أول ما فعله اللاعبان “شاكيري” و”تشاكا” وهما الألبانيي الأرومة والأصل؛ هو رسم هذا الشعار تأكيدًا على قوميتهما، وردًّا لما فعله الصرب بعوائلهم وقومهم قبل عقدين من السنوات..صحيفة (ذا تايمز) الإنجليزية سردت قصتي اللاعبين “شكوردان شاكيري” و”جرانيت تشاكا”، فتخبر عن والد صاحب الهدف الأول “تشاكا” واسمه رجب أنه قضى ثلاث سنوات ونصف مسجونًا في بلجراد، لمشاركته في مظاهرات ضد الحكومة الصربية في 1986..
وقال تشاكا عن هذه الواقعة: “كلما أتذكرها تؤثر فيَّ كثيرًا، لا يمكنني وصف والدي بصورة لائقة، يجب أن نتعمَّق أكثر لنعي جيدًا ماهيته، قصته مأسويةٌ للغاية، وأحيانًا أطلب منه أن يطلعني على القصة، لكنه لا يستطيع. هناك تلك اللحظات من الصمت التي تتمنى الانتقام فيها من أجله مما فعلوه به”.وقد جاءت اللحظة التي تمناها، وأعلن فيها فخره لأصوله، في شباك البلاد التي عاقبت والده قبل 32 عامًا..أما شاكيري فقد قال: “عائلتي غادرت كوسوفا قبل اندلاع الحرب عندما كنت في الرابعة من عمري..
عندما بدأت الحرب كان مستحيلًا العودة، وكانت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لعائلتي الذين كانوا عالقين هناك”. ويكمل: “منزل عمي تمَّ حرقه، وكان هناك معاناة كثيرة لأفراد أسرته.. كان والدي يُرسل أكبر قدرٍ من المال لإعانتهم، لذا لم يكن لدينا أيَّ أموال لإنفاقها في الوقت الذي أنمو فيه.. باستثناء شيء واحد ربما يوم عيد ميلادي”.”شاكيري” أراد تكريم أصوله في كأس العالم ليس فقط بالاحتفال هكذا، لكنه وضع علم كوسوفا على حذائه الأيمن، وعلم سويسرا على الأيسر..وتفسر صحيفة (ذا تايمز) الإنجليزية أن رغبة شاكيري في إظهار فخره بأصوله يعود إلى العداء التاريخي بين صربيا وكوسوفا التي استقلت عنها في 2008 رغم أن صربيا لا تعترف بها حتى الآن..
ما فعله الثنائي جعل هاشم ثاتشي رئيس كوسوفا يوجه تهنئته إلى “تشاكا” و”شاكيري” مؤكدًا فخره بالثنائي، بل بظني أن كل الألبان المتوزعين بالعالم؛ وقفوا لهما تحية واعجابًا بما فعلا..كنت في مناسبة غذاء في منطقة جبلية غاية في الجمال قرب مدينة “بريزرن” التاريخية، أكرمني بها مفتي كوسوفا سماحة الشيخ نعيم ترنافا، والرجل بسيط ومتواضع وذو خلق ودعابة حاضرة، بيد أنه أحد أبطال استقلال تلك البلاد، وتشعَّب بنا الحديث، وفجأة أرسل بصره إلى قمم تلك الجبال الشامخة أمامنا، وقد جلّل قممها بياض الثلج، وقال يا أخي عبدالعزيز، خلف هذه الجبال تقع جمهورية ألبانيا، ومنعنا الصرب والعالم من أن نتحد، ولكنها مسألة وقت أن تعود هذه الأرض لأصلها. دماؤنا ألبانية، وعروقنا واحدة، ولن يمنعنا أحد من أن نتحد..يتشابه الألبان مع العرب في كثير من الصفات، فبهم الجسارة والبسالة والاعتزاز بالدم والشهامة والكرم، يحتفون بالغريب ويجلّونه، ويسمونه المسافر، تأكيدًا على ضرورة اكرامه، حتى لو كان المضيف ضيق اليد. وعندما دخلت بعض متاحفهم القديمة، ورأيت تفصيل بيوتهم عبر القرون الماضيات، رأيت كيف أنهم يفسحون للضيف مكانًا في دورهم، ويكون في وجه المضيف طيلة وجوده، لا يمسُّه أحد..لم أزر ألبانيا للأسف، ولكني رأيت كوسوفا جنة فيحاء من جنان الأرض، وأنا عاكف هاته الأيام على تأليف كتاب عنها، من روعة ما رأيت هناك ووقفت..لا أرى اقحام السياسة في الرياضة، ولكني أتفهم ما فعله اللاعبان الألبانيان “شاكيري” و “تشاكا”، فالاعتزاز بالهوية والدم برأيي فطرة انسانية.. شكرًا لكما أيها اللاعبان العظيمان.
إعلامي وكاتب صحفي.
(المقالة بعد فوز سويسرا على صربيا في كأس العالم الماضية)