منى أبو زيد هناك فرق قصة موت معلن

“هزمتك يا موت الفنون جميعها، وأفلت من كمائنك الخلود.. فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد”.. محمود درويش..!استوقفني – غير مرّة – تعليق الكاتب الراحل “أنيس منصور” على ما ذكره الكاتب الأمريكي “لويس ممفورد” في كتابه “نشأة المدينة الحديثة” من أنه قد قرأ قصص “الديكاميرون” للروائي الإيطالي “جيوفاني بوكاشيو”، وهي مائة قصة قصيرة ترويها سبع نساء وثلاثة رجال في عشرة أيام أمضوها في ضواحي نابولي هرباً من الطاعون، وكان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر. فكل ما لاحظه “ممفورد” – بحسب تعليق منصور – هو أنّ الناس في القرن الرابع عشر كانوا يهربون إلى الضواحي عندما يشعرون بالتعب، ومن هنا ظهرت ضرورة الضاحية بالنسبة لسكان المُدن..!يقول “إن هذا هو كل ما لفت نظره في مائة قصة تُعتبر من أروع الأعمال الأدبية في العالم، ولعله أدرك أهمية هذا العمل الفني العظيم، لكن انشغاله بالبحث عن نشأة الضواحي هو الذي جعله يرى فقط هذا الجانب، فكل إنسان له جانبٌ خاصٌ من العالم ينظر منه وينظر إليه، وهو في نفس الوقت يجعلنا ننظر إليه من زاويته هو”..!تذكّرت تحليله العميق هذا وأنا أستمع إلى قصة طبيب سوداني مغترب – كان يعمل في بادية السعودية – مع الظروف التي صاحبت موت أحد مرضاه من البدو القاطنين هناك.. كان ذلك الشيخ البدوي قد دخل عليه شاكياً من سعال شديد تبيّن أنه بسبب فشل في الجانب الأيسر من القلب، الأمر الذي استدعى تدخلاً جراحياً عاجلاً، أُجري في أكبر مستشفيات العاصمة السعودية، بعد أن تم نقله إليها على وجه السُّرعة – وعن طريق إخلاء جوي – من إحدى مناطق الشمال النائية حيث كان يعيش مُتنقِّلاً بإبله وأغنامه..!ثم ما أن تماثل الرجل للشفاء حتى عاد إليه شاكياً من كثرة الأدوية ومُمتعضاً من كل ذاك الإزعاج.. وبعد حديث طويل عن استيائه البالغ من الأطباء، واصفاً إيّاهم بأنهم شرذمة متحذلقين بائسين يفتقرون إلى المنطق، طلب الشيخ العنيد من الطبيب – بحزم بالغ – أن يبارك عزمه وأن يعطيه “خاطره” في مسألة الذهاب إلى معالج شعبي يدعى “أبو نايل”، كان صيته ذائعاً في أوساط البدو لمهارته الفائقة في الكي والحجامة..!الأمر الباعث على الدهشة أن الرجل بعد أن استمع إلى شرح مُفصّل عن أهمية تلك الأدوية في المُحافظة على نجاح الجراحة “وخطورة التوقف عن تعاطيها على حياته” ضرب بكل ذلك عرض الحائط وقام بالتخلص منها في أقرب سلة مهملات في ذات المستشفى، بعد أن فضَّل حجامة “أبو نايل” على آراء كل أولئك الاختصاصيين المتفلسفين من أصحاب “البوردات” وأعضاء “الكليات الملكية”.. فكانت وفاته أمراً حتمياً ومُعلناً سلفاً من قبل أن يحين..!أما لماذا تَذكَّرتُ تعليق “أنيس منصور” على موقف “لويس ممفورد” من قصص “جيوفاني بوكاشيو”، وحديثه عن أن لكل إنسان جانباً خاصاً ينظر منه وينظر إليه، فلأنني قُمت بإسقاط تحليله ذاك على موقفينا – ذاك الطبيب وأنا – من قصة الموت المُعلن تلك..!فبينما كان أبناء الراحل ونساؤه وأحفاده يُلقون باللائمة على غباء الأطباء كالمُعتاد، كنت أفكِّر في طرافة المُفارقة بين قصة الموت المُعلن لبطل رائعة “ماركيز” الذي قُتِلَ ظُلماً دونما جريرة – وكانت جريمة مُجتمعِه هي الصّمت والسلبيَّة – وقصة موت ذلك الشيخ البدوي العنيد، الذي ظَلَم نفسه وقَتَلَ نفسه على الرغم من استماتة مُؤسّسات بلاده الصحيَّة في تدليله..!أما الطبيب – صاحب الحكاية – فقد كان يقول مُستخدماً كلتا يديه في عد الخسائر “إن هذا الرجل قد كلف دولته مبالغ طائلة دون جدوى، إسعاف من المركز إلى المستشفى.. إقامة في العناية المُركّزة.. أدوية ثم إخلاء جوي إلى العاصمة.. جراحة عاجلة.. ثم أدوية مجّانية تُصرف له مدى الحياة.. وهو في نهاية الأمر مواطنٌ بسيطٌ لا يملك أي تأمين صحي”..!ثم أردف مُغتاظًاً” وبعد دا كلو يقول لي حجامة”..!

munaabuzaid2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *