وكالات : كواليس
بينما كان يرى السلطان العثماني سليمان القانوني في منامه أنه في بستان وسط العاصمة دمشق، ظهر له النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأوعز إليه ببناء جامع في تلك الأرض، فاستيقظ السلطان العثماني من نومه مسرورا بما رأى وسمع، وأمر فورا باقتطاع جانب من ذلك البستان وتشييد تكية كبرى وسطه، وبناء جامع أوصى أن يكون محرابه في نفس الموضع الذي وقف فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المنام وأشار.
هذه هي الرواية التي تناقلها عدد من الكتاب والمؤرخين، كان آخرهم الشيخ نجم الدين الغزي في مؤلفه “الكواكب السائرة في أعين المائة العاشرة”، حول قرار السلطان القانوني بناء التكية السليمانية (غرب دمشق) في القرن الـ16، وهي واحدة من أبرز التكايا العثمانية وأحدثها طرازا وأجملها عمارة، حسب مختصين.
وتاريخيا كانت التكية السليمانية مكانا لتأدية الفروض الدينية واستراحة للحجاج وملجأ للمقطوعين والفقراء من أهالي دمشق والمسلمين وغيرهم، وبقيت كذلك إلى أن دخل المستعمر الفرنسي البلاد سنة 1920؛ حيث اتخذ الجنرال غورو وقواته من التكية مسكنا.
ومع خروج الاستعمار وحلول عام 1948، عادت المدرسة الشرعية في التكية لعقد الحلقات التعليمية وحلقات تحفيظ القرآن، ومنذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي بدأت التكية احتضان عشرات محال الحرف اليدوية الدمشقية العريقة، وتوسع هذا الجزء ليعرف لاحقا باسم سوق المهن اليدوية.
ومؤخرا أصبحت هذه الهوية الثقافية والدينية المركبة للمعلم التراثي مهددة، بعد إشعار وزارة السياحة (في حكومة النظام السوري) أصحاب المهن بإخلاء محالهم قبل نهاية العام بدعوى الترميم.
من القصر الأبلق إلى التكية السليمانية
وعَرَفَ موقع التكية السليمانية غربي دمشق تشييد عدد من المساكن الملكية، كان آخرها القصر الأبلق لصاحبه السلطان المملوكي الظاهر ببيرس (1228-1277 من الميلاد)، الذي سمي نسبة لألوان أحجار بنائه السوداء والصفراء التي جيء بها من حلب ودرعا.
ولكن أجزاء واسعة من القصر تعرضت للاحتراق في أثناء غزوة القائد المغولي تيمورلنك لدمشق سنة 803 من الهجرة (1402 من الميلاد)، ولم يرمم القصر الأبلق ويعاد تأهيله إلا مع دخول السلطان العثماني سليم الأول دمشق سنة 923 من الهجرة (1517 من الميلاد).
وبحلول سنة 959 من الهجرة (1502 من الميلاد)، كلف السلطان سليم القانوني المعماري العثماني الشهير معمار سنان بوضع مخطط معماري حديث الطراز لتكية في موقع القصر الأبلق، وفي سنة 960 من الهجرة (1553 من الميلاد) شرع عدد كبير من العمال ببناء التكية تحت إشراف المهندس الدمشقي شهاب الدين بن العطار، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن المهندس المشرف كان الإيراني ملا آغا، واستغرق البناء 6 أعوام.
لترتاح بعد ذلك على ضفاف نهر بردى “مجموعة عمرانية فخمة تخلب الألباب بقبابها المنتظمة كالعقد حول قبة رئيسية كبيرة، يحيط بها مئذنتان ممشوقتان، وتتخللها حدائق وأشجار باسقة يمتزج جمالها بمحاسن العمارة فيجعل من هذه البقعة في دمشق من أجمل البقع وأكثرها جمالا” وهي التكية السليمانية، حسبما يصفها عبد القادر الريحاوي في كتابه “العمارة في الحضارة العربية الإسلامية”.
هندسة عثمانية وزخارف دمشقية
ويتألف بناء التكية السليمانية من كتلتين معماريتين متصلتين متشابهتين، إحداهما كبرى وتضم الجامع والتكية، والأخرى صغرى وتضم المدرسة، ويصل بين هاتين الكتلتين سوق كان مخصصا لقوافل الحجاج، وتتضح الآثار الهندسية العثمانية على التخطيط والبناء، في حين تطغى اللمسة الفنية الدمشقية على تصاميم الأبواب والنوافذ والزخارف التي تزين جدران وغرف المكان.
وتحيط بالكتلتين المعماريتين أسوار منخفضة نسبيا، في حين تتوسطهما بركتان مستطيلتان تغذيهما بالماء نوافير عمودية كانتا تستخدمان للوضوء، ويتصدر الجامع بمئذنتيه الممشوقتين الكتلة الجنوبية، في حين يتصدر مسجد المدرسة بقبته الملساء الكتلة الشرقية، وعلى جانبي الكتلتين تنتشر أبنية عبارة عن محال وغرف ضيقة مسقوفة بقباب منخفضة تتخللها ذؤابات المداخن على شكل مآذن صغيرة وتتقدمها أروقة ظليلة بقناطر مزخرفة.
ويمتد سوق التكية السليمانية من أقصى شرقها إلى أقصى غربها، وترتصف على جانبيه عشرات المحال التي كانت في السابق حوانيت تجارية، وتحولت منذ سبعينيات القرن الماضي إلى محال للحرف اليدوية.
وإلى جانب دورها التقليدي كمكان يقصده المحسنون والفقراء والمحتاجون، صُممت التكية السليمانية لتكون محطة لاستراحة الحجاج على طريق الحج الواصلة إلى مكة المكرمة؛ حيث جُهز المكان بمطابخ واسعة ومخابز وغرف للاستراحة وعدة مصليات وبحرة للوضوء وغيرها من الخدمات الضرورية للحجاج.
وحينما تحولت التكية إلى دار للمعلمين عام 1923، توقفت عن استضافة النزلاء وإيواء الوافدين إليها لأول مرة منذ إنشائها قبل 4 قرون، ولكن سرعان ما استعادت التكية هويتها كمكان مضياف عندما استضافت عددا من الأسر الفلسطينية النازحة إلى دمشق إثر نكبة 1948.
بينما اشتهرت المدرسة السليمانية باستقبالها لطلبة العلوم الشرعية من كافة أصقاع الأرض، قبل أن تتحول، مع افتتاح الجامعة السورية في دمشق سنة 1934، إلى مكان لتدريس طب الأسنان، ثم إلى معلم أثري يضم متحفا حربيا مع استمرار الأنشطة الدينية في المصليات والجامع إلى يومنا هذا.
من حاضنة للعراقة إلى طاردة لحراس الإرث
وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنذرت وزارة السياحة في حكومة النظام شيوخ الكار من الحرفيين في سوق المهن اليدوية بضرورة إخلاء محالهم قبل حلول العام الجديد 2023 لغرض الترميم.
ورغم مناشدة الحرفيين للجهات المعنية عبر الصحف ووسائل الإعلام المحلية، وتدخل إدارة غرفة سياحة دمشق لتعد الحرفيين بعودتهم بعد انتهاء عمليات الترميم، فإن نضال ماشفج -معاون وزير السياحة- أكد أنه لا يوجد أي بند قانوني يلزم الوزارة بتجديد عقود الحرفيين بعد انتهائها كل سنة، وأنه وفقا للقانون يحق للوزارة أن تطالب بإخلاء المحال المستثمرة من قبل أصحاب المهن لأغراض المصلحة العامة قبل انتهاء مدة العقد، ومن دون أن يحق لأصحاب المحال المطالبة بأي عطل أو ضرر أو غبن أو ما شابه ذلك، كما قال المسؤول لصحيفة “تشرين” الرسمية.
في حين يشير عضو غرفة سياحة دمشق، عرفات أوضة باشي، إلى أن جل ما يأمله أصحاب المحال في التكية السليمانية هو أن يعودوا إلى محالهم بعد انتهاء الترميم، ليواصلوا عملهم والحفاظ على التراث اللامادي المهدد بالاندثار.
ويقول الحاج أبو محمد (57 عاما)، صاحب محل في التكية، للجزيرة نت “قبل سنوات أخلوا سوق الزجاج التابع للتكية بحجة ترميمه، وما زال إلى اليوم حطاما وليس من الواضح إذا ما كان سيعود سوقا للزجاج، ولا أستبعد أن يكون لمحالنا مصير مشابه”.
ويتابع “كأنه لم يكفهم ركود السوق في السنوات الـ10 الأخيرة وغياب السياح والزوار الميسورين عن محالنا التي لا يستطيع المواطن البسيط شراء البضاعة منها لغلاء تكلفتها، وكل ما تكبدناه من خسائر للاستمرار في إحياء هذه الحرف خلال الحرب”.
وتخضع التكية السليمانية لعمليات ترميم منذ عام 2019، واستهدفت المرحلة الأولى ترميم جزء من التكية وما يعرف بسوق الزجاج، أما المرحلة الثانية فهي مخصصة لسوق الحرف اليدوية وبعض الأجزاء الداخلية من التكية “للحفاظ على المكان الأثري من الهبوطات والتصدعات الإنشائية”، حسب نضال ماشفج.