وكالات : كواليس
في أغسطس/آب 1485، التقى الملك الإنجليزي ريتشارد الثالث بقوات هنري تيودور في معركة بوسورث وسط إنجلترا، ركب ريتشارد حصانا أبيض سريعا وقويا، وقاد سلاح الفرسان وجيشا أكبر عددا من قوات خصمه، لكنه تعرض للخيانة خلال المعركة من قبل بعض قواده ثم سقط عن جواده وقتل، ليصبح آخر ملك إنجليزي ينال حتفه في ساحة معركة.
خلف الملك المقتول تيودور ريتشارد وتسمى بالملك هنري السابع، وتزوج من ابنة أخت ريتشارد الثالث، وتقول مصادر تاريخية إنه تم نقل جثة ريتشارد العارية إلى ليستر مقيدة على حصان، بينما أشارت مصادر قديمة إلى أنه تم عرضه في كنيسة ودفن فيها، لكن المكان ظل مجهولا، حيث ادعى مؤرخون أن جثته ألقيت في نهر.
وألهمت سيرة ريتشارد الثالث العديد من الأعمال الأدبية، وظهر بطلا لرواية تاريخية تراجيدية للمسرحي الإنجليزي الأشهر ويليام شكسبير، إضافة لظهوره في مسرحيات أخرى قبل عمل شكسبير، ويُعتقد أن الدراما اللاتينية “ريكاردوس تريتيوس” (عرضت لأول مرة عام 1580) للمسرحي الإنجليزي الشهير توماس ليج (1535-1607) هي أول مسرحية تاريخية مكتوبة في إنجلترا.
وظهر ريتشارد الثالث أيضا في مسرحية لا يعرف كاتبها بعنوان “المأساة الحقيقية لريتشارد الثالث” (1590)، لكنه اكتسب مظهرا سيئ الشكل، وصورة الرجل السلطوي الطاغي وذي العقل الشجاع والطموح أيضا، ويعتقد أن تلك المسرحية المجهولة أثرت على عمل شكسبير (توفي 1616) المتزامن معها.
وفي تلك المسرحيات العديدة، وأيضا في روايات إنجليزية حديثة مثل “تاج الورود” (1989) لفاليري أناند و”ابنة الزمن” (1951) من تأليف جوزفين تي وغيرها، دارت الحبكة الدرامية حول ما إذا كان الملك المقتول متورطا في جرائم قتل لأمراء آخرين أم لا.
وسلط فيلم الدراما والكوميديا “الملك المفقود” (2022) الضوء -مرة أخرى- على شخصية الملك المثير للجدل، وبدا كمحاولة لإقناع الجمهور بنضال امرأة تدعى فيليبا لانغلي للعثور على قبر ورفات الملك الذي حكم في القرن الـ15، والذي اكتُشِف في نهاية المطاف تحت موقف للسيارات في ليستر عام 2012.
وأعيد دفن رفات الملك قبل 7 سنوات في كاتدرائية ليستر في نعش صممه أحد المنحدرين من سلالته، والذي ساعد في التعرف على هوية الرفات عبر فحص الحمض النووي.
ونشر موقع ذا كونفيرسيشن (The conversation) مقالا للكاتب تيم ثورنتون، أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة هيدرسفيلد، تساءل فيه: “لماذا يستمر الملك الذي توفي منذ أكثر من نصف ألفية في جذب هذا الاهتمام؟ ولماذا سحرتنا قصة المرأة العادية جدا التي تحاول استعادة رفاته مقاومة العديد من الأعراف الأكاديمية التقليدية؟
العصور الوسطى و”أمراء البرج”
ويوضح الكاتب أنه لفهم ذلك فنحن بحاجة إلى معرفة بعض تاريخ العصور الوسطى المتأخرة، والمزيد عن بريطانيا الحديثة؛ حيث جلس ريتشارد الثالث على العرش لمدة عامين فقط، لكن عهده كان مثيرا للجدل ولا يزال حاضرا في الوعي العام لسبب رئيسي واحد، وهو أنه استولى على التاج من ابن أخيه الصغير إدوارد الخامس، الذي تم التنديد به باعتباره ابنا غير شرعي بعد فترة وجيزة من وصوله إلى العرش في عام 1483، وقد اختفى إدوارد وشقيقه ريتشارد -حيث باتا يعرفان بـ”أمراء البرج”- بعد ذلك بوقت قصير.
ويشير الكاتب -الذي ألف كتابا نشر حديثا عن الملك المفقود- إلى أن إدانة ريتشارد أو براءته من مصير الأمراء، والتي يمكن القول إنها أكبر قضية مفقودين في التاريخ البريطاني، مهمة بشكل خاص في تناول سيرة “الملك المفقود”.
واعتبر الكاتب أن أول شخص حدد مسؤولية اختفاء (أو موت) الأميرين كان المحامي البارز والفيلسوف والسياسي والقديس الروماني الكاثوليكي السير توماس مور، حيث تمت معالجة رواية مور -التي كتبت بعد حوالي 30 عاما من وفاة ريتشارد- بدرجات متفاوتة من الشك على مدار الأعوام الـ150 الماضية.
فقد شجب المدافعون عن ريتشارد رواية مور ووصفوها بأنها “دعاية تيودور” (نسبة لهنري تيودور الذي انتصر على جيش ريتشارد في المعركة التي قتل فيها الأخير)، وأنها جاءت بعد سنوات من الحدث لتشويه سمعة الملك المقتول، في حين ركز آخرون على الفلسفة السياسية في عمل مور كتحذير مجازي من الاستبداد ومخاطره.
وكان مور (1478-1535) قائدا سياسيا ومؤلفا ورجل دين اشتهر بمعارضته لطلاق الملك هنري الثامن لزوجته الأولى كاثرين من أراغون، مما أدى لاتهامه بالخيانة العظمى ثم حبسه وقطع رأسه في برج لندن، حيث كتب “حوار الراحة ضد المحنة”.
ويبين الكاتب أنه في السياق نفسه؛ يدور الفيلم الجديد حول شغف الماضي والدفاع عن أولئك الذين تعرضوا لسوء المعاملة بقسوة من قبل السجل التاريخي الرسمي للمملكة، فهناك من يعتقد أن الملك -الذي مات وهو يقاتل بشجاعة من أجل قضيته ضد هنري تيودور خلال حرب الوردتين- اتُّهِم زورا بقتل الأمراء الشباب.
وحرب الوردتين هي حرب أهلية استمرت 3 عقود (1455-1485) في المملكة المتحدة بين عائلات متنافسة على العرش الملكي، واكتسبت اسمها من مسرحية لشكسبير، حيث كانت الوردة الحمراء شعار أسرة لانكاستر (ومنها تيودور المنتصر) والوردة البيضاء شعار أسرة يورك (ومنها ريتشارد الثالث المقتول).
الأدب والأدلة
ويقول الكاتب إن بحثه يعزز أهمية رواية مور عن ذنب ريتشارد، والتي تم تداولها لاحقا بقوة من قِبَل ويليام شكسبير بعد قرن من وفاة الملك، مشيرا إلى أنه يجب التركيز على الروابط والاستمرارية بين عالَم مور وإنجلترا في عام 1483 التي يكتب عنها؛ حيث يوضح بحثه أن مور لم يكن يكتب فقط الأدب العظيم والفلسفة السياسية، ولكن كان يكتب عن أناس حقيقيين.
ويشير الكاتب إلى أن تاريخ مور يوفر تفاصيل ظرفية دقيقة للنقطة المحورية لأزمة خلافة المملكة عام 1483؛ كما كان من اللافت للنظر -وهو أمر محوري أيضا- وجود العديد من الأفراد الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة وقت كتابة مور لروايته، أي الناجون من الحادثة وعائلاتهم المباشرة، لذا فإن الأمر يستحق أن يُعامَل بجدية أكبر كتاريخ بدلا من معاملته كدعاية أو خيال أو نظرية.
وبحسب الكاتب، فإن الفيلم الجديد يعيد الطرق على التوتر المعاصر بين الهواة والمتحمسين من ناحية وبين الخبرة المهنية من ناحية أخرى، حيث يقدم الفيلم رسالة جذابة مفادها أن الأفراد العاديين من الجمهور يمكنهم إرباك الخبراء الأكاديميين وقلب التقاليد وتحقيق المنجزات والمتكشفات، مثلما فعلت بطلة الفيلم التي اكتشفت رفات الملك المفقود.
وبالإضافة إلى أن ريتشارد الثالث كان ملكا غير عادي، وقد يتهم بالقتل والاستبداد، لكنه أيضا أحد الملوك القلائل الذين لديهم جمهور مكرس لتعزيز سمعته؛ حيث تضم جمعية ريتشارد الثالث (المسماة باسمه) أكثر من 3200 عضو و30 مجموعة في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى فروع في أستراليا وكندا وأيرلندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة.
الحنين للعصور الوسطى
ويتساءل الكاتب عن الأمر المهم والسبب في وجود العزيمة على تبرئة ريتشارد الثالث من الآثام المزعومة، مجيبا بأن هناك بعض التفسيرات في حقيقة أن وفاة ريتشارد في معركة بوسورث في عام 1485 كانت بمثابة نهاية لحرب الوردتين -عندما تغيرت السلطة- وغالبا ما يتم اعتبارها مناسبة للاحتفال بانتقال رئيسي بين العصور الوسطى والحديثة.
لذلك يمثل ريتشارد العصر الأخير من العصور الوسطى، التي بدأت تبدو -منذ أواخر القرن الـ 18- أسطورية وتحوز على إعجاب وحنين متزايد، مثل الحفاوة بروايات السير الأسكتلندي والتر سكوت (توفي 1832)، أو الانبهار بفنون المعماري وليام موريس (توفي 1896)، وغيره من المعماريين وحتى الموسيقيين في القرون الماضية.
ووفقا للكاتب، فإن الوقت الذي قضاه ريتشارد الثالث في شمال إنجلترا قبل أن يصل للعرش، واحتفاله بارتباطه بالشمال عندما أصبح ملكا، جعله بالنسبة للبعض بطل الشمال ضد الجنوب، وهو موضوع بارز على نحو متزايد في النقاش المعاصر عبر القرن الـ20، وحتى اليوم في المملكة المتحدة، ولهذا فليس مستغربا أن العديد من المساهمات في دراسة حياة ريتشارد وعهده قد تتناول أيضا موضوعات داخل وخارج الحدود التقليدية لتاريخ العصور الوسطى.
ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك -كما ذكر الكاتب- رواية إليزابيث ماكينتوش الشهيرة التي أصدرتها عام 1951 بعنوان ابنة الزمن (مكتوبة باسم جوزفين تاي)، والتي تحكي قصة مفتش شرطة يعمل من خلال سلسلة من “القرائن” التاريخية لتبرئة ريتشارد من كونه المشتبه به الرئيسي في اختفاء الأمراء.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي أيضا خرجت نسخة لورنس أوليفييه السينمائية التي لا تزال مشهورة من مسرحية “ريتشارد الثالث” لشكسبير، والتي كتب في مقدمتها أنها عبارة عن أسطورة، مما يعني بقوة أن إدانة المسرحية لريتشارد لا ينبغي أن تعامل على أنها صورة صادقة للملك الحقيقي، فأولئك الذين يقفون وراء الفيلم لم يأتوا من المؤسسات التاريخية التقليدية (الرسمية).
ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أنه من السمات الأساسية لهذه الظاهرة أن “الحقيقة” من المرجح أن يتم الوصول إليها من خلال البحث عن العمل خارج الأعراض التقليدية، وربما من قبل رجل عادي أو امرأة في الشارع، كما رأينا في فيلم “الملك المفقود”، وحينئذ -وحتى مع البحث الأرشيفي- يفتح علم الآثار وعلم الطب الشرعي المزيد من السبل لفهم ريتشارد الثالث وعصره، وحتى ذلك الوقت سيبقى “الملك المفقود” الملك الأكثر إثارة للجدل في تاريخ بريطانيا.