وكالات : كواليس
كييف- “سأحدثكم عن بلد دخل الشيطان فيه إلى المعبد، حيث الكاهن يأمركم بالقتل، وتدفع الأم ابنها نحو الموت”، هذه الكلمات جزء من أغنية انتشرت بشكل واسع أواخر الشهر الماضي، للأديب والفنان الروسي الشهير أندري ماكاريفيتش، الحائز على عدة أوسمة رسمية في بلاده.
الأغنية، وإن كانت تعبر عن معارضة شديدة لحرب روسيا على أوكرانيا، إلا أنها تأتي في سياق ديني زاد الحديث عنه مؤخرا، ولا سيما بعد إعلان موسكو “التعبئة الجزئية”.
وقف “شيطنة أوكرانيا”
وبحسب بيان نقلته وكالة “تاس” عن مجلس الأمن الروسي، فإنه -بالإضافة إلى الأهداف المعلنة سابقا- من أهداف “العملية الخاصة” وقف “شيطنة أوكرانيا”.
وكان المصطلح نفسه قد تردد في روسيا مع نهاية 2018، عقب إعلان كييف قيام “الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة”، التابعة لـ”بطريركية القسطنطينية المسكونية”، بدلا عن بطريركية موسكو.
وجاء رد مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني على لسان سكرتيره أوليكسي دانيلوف، الذي قال إن “لدى القوات الأوكرانية خبرة في طرد الأرواح الشريرة، وهي تتوق إلى المساعدة على طرد الشياطين الأعضاء في المجلس الروسي، وخاصة رئيسه”، على حد قوله.
دعوات تضحية و”جهاد”
وفي مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، انتشرت مقاطع فيديو لقساوسة مسيحيين في روسيا، يحثون العامة على التطوع للقتال والتضحية في أوكرانيا، معتبرين أن “الأبناء ملك للرب والوطن” قبل أي شيء آخر.
ولا يقتصر الأمر على المسيحيين الأرثوذكس فقط، فقد توجه -قبل أيام أيضا- الزعيم الشيشاني رمضان قاديروف، بنداء منفعل عبر مقطع مسجل إلى سكان دول القوقاز، استغرب فيه إحجامهم عن “الجهاد” دفاعا عن حمى الإسلام والمسلمين وروسيا في أوكرانيا.
ونداء قاديروف وغيره من “المفتين والرموز” يشمل كذلك نحو 25 مليون مسلم، من أصل نحو 149 مليون نسمة يعيشون في روسيا.
إحياء المشاعر الدينية
كل ما سبق يأتي في إطار استثمار (أو استغلال) الدين لإحياء المشاعر والحث على القتال، أو العكس، وكذلك الحد من ممانعة شريحة واسعة من الروس للتعبئة، قبل أن يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتهاءها؛ وإن كانت هيئة الأركان الأوكرانية تؤكد أنها “مستمرة”.
حول هذا يجمع الكثير من المحللين، ومنهم رئيس مؤسسة “الخيارات الأوكرانية” للدراسات الإستراتيجية أوليكسي كوشيل، الذي قال للجزيرة نت: “لا يمكن أن يكون الدين مستقلا في ظل نظام دكتاتوري. الدين في روسيا أداة مؤثرة بيد الدولة على الطبقة الوسطى والفقيرة، لأن الأكاذيب السابقة حول أن ما يحدث في أوكرانيا وحولها مجرّد تدريبات، ثم حول حماية الأقليات ومحاربة النازيين الجدد، كُشفت جميعها، ووسائل الإغراء بالمال والمناصب لم تعد مقنعة أمام زيادة أعداد صناديق وأكياس الجثث”، على حد قوله.
اتساع الهوة الدينية
وبشكل أو بآخر، تعبّر هذه المستجدات عن اتساع الهوة الدينية بعد الاجتماعية وغيرها، بين الشعبين والمؤسسات والرموز في كلا البلدين.
وقد بلغ ذلك درجة دفعت بعض النواب البرلمانيين والعامة إلى الدعوة للاحتفال بعيد ميلاد المسيح -عليه السلام- في 25 ديسمبر/كانون الأول بدلا من 7 يناير/كانون الثاني وفق التقويم الشرقي الأرثوذكسي، أي بحيث يتوافق هذا الإحياء مع المذهب الكاثوليكي المتبع في مناطق غرب أوكرانيا ودول الغرب عموما.
ومن جهته، عمد سليمان خير اللايف -وهو إمام الإدارة الدينية لمسلمي القرم في كييف- إلى الدعاء على أئمة روسيا من فوق منبر خطبة الجمعة، قائلا: “قاتلكم الله.. الدين وحفظ الدماء أهم من إمامتكم التي تتشبثون بها من خلال مواقف تأييد هذه الحرب الظالمة”.
انتهاء بلا رجعة
وهنا يشكك كثيرون في حقيقة مستقبل “الأخوّة” العرقية والدينية التي جمعت الشعبين، بل إن كثيرين منهم يعتبرون أنها علاقات انتهت بلا رجعة، ولأسباب كثيرة.
دميترو بريساجني مرشد روحي مسيحي في صفوف القوات الأوكرانية، يقول للجزيرة نت: “لسنا إخوة أبدا. الأوكرانيون ينظرون إلى مسيحيي روسيا الصامتين كقتلة اليوم. أرواح ودماء الأبرياء تصعد إلى السماء، وتتحول لعنة على المعتدين في كل مكان”.
ويقول سعيد إسماعيلوف مفتي مسلمي أوكرانيا السابق، الذي ترك المنصب والتحق بصفوف القوات الأوكرانية منذ عدة أشهر: “لا أعرف كيف يمكن أن أضع يدي بيد مفتين أيدوا بوتين. هذا نفاق لا أرضاه لنفسي ولمسلمي أوكرانيا ولوطني”.
ويضيف: “عندما يأتي مسلم شيشاني أو روسي ويقتل باسم الإسلام ودون أي مبرر، مسلما أو غير مسلم على أرض أوكرانيا، فهذا ضلال كبير. للأسف، سمعت من مسلمين كثيرين أنهم يفرحون بمقتل شيشانيي قاديروف أكثر من فرحهم بمقتل الجنود الروس، لأن في مشاركتهم تشويها وتحريفا، وهي أكثر إيلاما من الناحية المعنوية”.
إحياء جدل وخلافات
الدين في هذه الحرب يكتسب أهمية بحكم أن المسيحية الأرثوذكسية من الأمور التي وحّدت الشعبين الروسي والأوكراني من عدة قرون قبل الحرب، وحتى خلال فترة الحكم الشيوعي في ظل الاتحاد السوفياتي، لكن أزمة 2014 وحرب اليوم أحيت كثيرا من الجدل والخلافات التاريخية بين كييف وموسكو، المتعلقة بأحقية القيادة والتبعية والولاء.
وبالنسبة للمسلمين الذين كانت تقدر أعدادهم بنحو مليوني نسمة من أصل 42 مليونا قبل 2014، وبمليون نسمة بعد تلك السنة، فقد كان ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا في 2014 وبالا على نحو 500 ألف من تتار الإقليم، الذين كانوا -ولا يزالون- يرون في موسكو وريثة حكم هجّرهم قسرا وتماما في 1944.
كما أن الحراك الانفصالي في مناطق إقليم دونباس أضرّ بنحو 100 ألف نسمة من تتار كازان، ودفع نسبة كبيرة منهم ومن تتار القرم إلى النزوح نحو أرجاء أوكرانية أخرى أو دول مجاورة.
انخراط منذ البداية
ورغم أن معظم سكان البلاد وجنودها من أتباع المسيحيتين الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، فإن مسلمي أوكرانيا -منذ 2014- يشاركون في حرب الانفصاليين وروسيا، في إطار الجيش الأوكراني أو ضمن كتائب خاصة بهم تنسق مع الجيش، مثل “كتيبة القرم الإسلامية”، و”كتيبة الشيخ عبد الله منصور” الشيشانية المناوئة لنظام حكم رمضان قاديروف.
هذه الكتائب تحظى بدعم أوكراني واضح يتجاوز حدود السلاح إلى السياسة، وآخر ذلك كان قرارا برلمانيا اعتبر أن “جمهورية إشكيريا الشيشانية محتلة”، وأن نظام قاديروف فيها غير شرعي.
كما احتضنت كييف يوم السبت الماضي مؤتمر “وحدة شعوب القوقاز في الخارج”، الذي عبّر عن دعمه لأوكرانيا في مواجهة “العدوان الروسي”، ونظام حكم كل من بوتين وقاديروف.