من كان يظن ومن كان يصدق أن سهول النيل الأزرق المعطاءة المسماحة بكل قبائلها العريقة التي كانت تكرم الضيف وتحمي الغريب وتأوي الطريد وتعلم الناس المكارم، من كان يصدق أنها اصبحت الآن ساحة للنهب والقتل والجريمة!
من كان يصدق أن تلك الأرض الخيّرة التي كانت نساؤها يكرمن الضيف في مشرع الشلال بأكفهن كما وثق لذلك المبدع الكبير العبادي:
ما نفرن تقول سابق الكلام عرفة
عطشان قلت ليهن وصحت البلفا
مافيش كاس قريب قالنلي دون كلفا
تشرب من كفوفنا لما تتكفى
من كان يظن أن تلك البقاع الطاهرة التي كان يرعاها الشيخ يوسف العجب وبقية العقلاء يمكن أن تُمسي الآن مسرحاً لإدارة النهّابين واللصوص وأوغاد الحدود.
ولكن طبيعة الأشياء أن يتبدل الزمان ويكفر ويجحد الانسان كما يفيد العبادي في رائعته سايق الفيات:
شوف النهر مار بخشوع تقول هجسان
أو مر المنام بمقلة النعسان
جلت قدرته ما أكفر الانسان
كم ينسى الجميل ويجحد الاحسان
عذرا ايتها العواصم المسالمة المنتجة بالسماسم والذرة والفاكهة والمعشر الطيب الدندر والسوكي وسنجة، عذرا سودان ٥٦، وعذراً لنجوم تلك الديار التي علمت الأجيال الإفصاح والإجادة وحسن التوثيق حسن نجيلة صاحب الذكريات والملامح وعبدالله رجب صاحب الصراحة والبيان.
ولا نملك الكثير لنقدمه بين يدي هذه المأساة غير الدموع وشيئاً من القريض لعلها ترضى:
الدندر جراح والسوكي عُقبن سنجة
جناين موزا نازف في ضرا اللارنجا
الغرقان عشم مستني جيش اب عنجة
حفيان دربو شوك والحافي شوقه “سفنجة”