وكالات : كواليس
بيروت- منذ الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022، سيصبح ميشال عون “الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية” كما كان قائدا أسبق للجيش ورئيسا سابقا لحكومة عسكرية، طاويا 6 سنوات من ولاية رئاسية استثنائية، وفاتحا باب مواجهة سياسية ودستورية بتوقيعه مرسوم اعتبار حكومة تصريف الأعمال مستقيلة.
وعون (87 عاما) أول رئيس يخرج من قصر بعبدا مرتين؛ الأولى تحت قصف قوات الجيش السوري وتزامنا مع توقيع وثيقة اتفاق الطائف عام 1989، حين كان رئيسا لحكومة عسكرية انتقالية، أدى للجوئه إلى المنفى الفرنسي 15عاما. ومرة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بانتهاء ولايته، بعدما تحقق حلمه السياسي الذي خاض معارك ضارية كي يدخله رئيسا للجمهورية.
وما درج تسميته بـ”عهد عون”، تمتد ارتداداته لمرحلة الشغور -الفراغ الرئاسي- تحت وطأة عجز كتل البرلمان عن انتخاب رئيس بأغلبية الثلثين، وسجال سياسي حول صلاحية تولي حكومة مستقيلة برئاسة نجيب ميقاتي الرئاسة بالشغور، وردّ الأخير أنه سيتابع العمل بصلاحياته الدستورية.
سابقة خطيرة
ولبنان الذي يترقب انتخاب الرئيس الـ14 بعد انتهاء ولاية عون، لم يسبق بعد اتفاق “الطائف” أن أنجز الاستحقاق الرئاسي بموعده، بل شهد إما تمديدا أو شغورا، لكنها المرة الأولى التي يدخل فيها الشغور بإصدار الرئيس مرسوم استقالة الحكومة.
ويقول أستاذ القانون الدستوري وسام اللحام للجزيرة نت إن إصدار عون للمرسوم، يعني أن الحكومة بحكم غير الموجودة، موضحا أنه لا جواب دستوريا حول هذه الحالة التي يصفها بالسابقة الخطيرة، مرجحا الدخول بمرحلة التفسيرات السياسية للدستور، واستمرار ميقاتي بتصريف الأعمال على قاعدة لا يوجد فراغ مطلق بالحكم، لكنه سيواجه معضلة مقاطعة عدد من الوزراء للحكومة.
وتنص المادة 62 من الدستور اللبناني أنه “عند خلو سدة الرئاسة، تناط صلاحيات الرئاسة وكالة لمجلس الوزراء”. ولم يتناول الدستور إشكالية الحكومة المستقيلة بالفراغ الرئاسي.
مراجعة عهد عون
بعد أطول شغور رئاسي دام عامين ونصف العام، وقف الرئيس عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016 بالبرلمان، وأدى القسم الرئاسي متوجا ثمرة التسوية الرئاسية بين كل من رئيس التيار الوطني الحر (فريقه السياسي) جبران باسيل ورئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وكان عرابها الأول حزب الله.
ومما جاء بقسمه حينها: “إن من يخاطبكم اليوم.. رئيسٌ أتى في زمن عسير، ويؤمل منه الكثير في تخطي الصعاب وليس مجرد التآلف والتأقلم معها، وفي تأمين استقرار يتوق إليه اللبنانيون كي لا تبقى أقصى أحلامهم حقيبة السفر”.
لكن ولاية عون، أثقلتها أحداث صادمة، وكان “حراك 17 أكتوبر” 2019، حدا مفصليا تجلت بداية مفاعيله في إسقاط التسوية الرئاسية. ودخلت البلاد بعده مسارا دراماتيكيا، من انهيار اقتصادي ومعيشي ومالي، إلى انفجار مرفأ بيروت بأغسطس/آب 2020 وما تلاه من اضطرابات سياسية وأمنية وبالعلاقات الإقليمية.
وشهدت ولايته تشكيل 4 حكومات فقط -اثنتين برئاسة سعد الحريري، وواحدة برئاسة حسان دياب وأخرى برئاسة ميقاتي- مقابل أشهر طويلة قضاها لبنان بحكومات تصريف الأعمال.
كما ولد برلمان جديد سِمته التعطيل وفق خبراء، لأنه بلا أكثرية ولا أقلية واضحة قادرة على صياغة الحكم، ناهيك عن خروج الحريري من المشهد رغم ما يمثله كأبرز لاعب سني بالحياة السياسية.
وختم عون، آخر أسبوع من ولايته بتوقيع تاريخي على اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل بوساطة أميركية، فاتحا عهد “ما بعد الترسيم”.
وتطرح كواليس نت أسئلة حول ولاية عون وانعكاساتها على مرحلة الفراغ الرئاسي والسيناريوهات التي يقبل عليها لبنان:
بعد 6 سنوات.. كيف يمكن تقييم عهد الرئيس عون؟
يُقسّم أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية علي فضل الله، ولاية الرئيس عون قسمين: “قبل حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول، كان هناك إمكانية للإصلاح بفعل التسوية الرئاسية التي كان دورها قيادة لبنان للحل، وهذا ما لم يحصل. وبعد 17 أكتوبر/تشرين الأول، شهد لبنان شللا كاملا، مقابل هجوم شرس على عون وفريقه”.
ويعتبر فضل الله في حديث للجزيرة نت، أن حجم الهجوم على عهد عون كبير، حتى صار أكثر العهود ضغطا. ويرى أن ثمة حدثين بارزين يُحسبان من إيجابيات العهد:
أولًا: معركة “فجر الجرود” في 2017 التي حررت مساحة كبيرة من لبنان تسللت إليها “الجماعات التكفيرية”، وفق وصفه، وهي عملية مؤجلة اتخذ عون قرارها بالتحالف بين الجيش والمقاومة. وثانيًا: إنجاز ملف ترسيم الحدود الجنوبية البحرية.
ويرى الكاتب والباحث في الفكر السياسي وسام سعادة أن ما يُحسب لعهد عون، لعبه دورا إيجابيا بإنهاء محنة الحريري عندما قدم استقالته من الرياض عام 2017. أما ترسيم الحدود مع إسرائيل، “فلولا تقاطع لحظة إقليمية دولية ملحة، لما جرى توقيع المرسوم لا بعهد عون ولا غيره”.
وقال سعادة إن “كل أزمة واجهها لبنان بسنوات العهد، كانت لعون وفريقه لمسة فيها، ومسؤوليته تتعاظم كونه طرح نفسه رئيسا منقذا”.
من ناحيته، يعتقد مدير “مركز عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية” في الجامعة الأميركية ببيروت جوزيف باحوط، أن قراءة عهد عون ستكون محكومة بحوادث آخر 3 سنوات، لأنها طغت على مجمل 6 سنوات. و”مع استثناء التسوية الرئاسية، يمكن القول إن سمة العهد الانقسام السياسي الحاد، والتاريخ سيسجل أنه شهد الانهيار الكبير وانتهاء لبنان معين”.
ويقول باحوط إن عون كان خصما لجميع القوى الوازنة، ما عدا حليفه الوحيد حزب الله، وحتى كان خصما لحلفاء ما يعرف بـ” قوى 8 آذار” وعلى رأسهم حركة أمل، “ما جعله معزولا بجدار واسع من الخصوم، وهذا يرتبط بتاريخ عداواته السياسية المتراكمة، فصار عاجزا عن بناء أي تفاهم مستدام خارج عباءة حزب الله”.
ما الرمزية التي يحملها خروج عون من القصر الجمهوري؟
يذكر وسام سعادة أن الدستور اللبناني لم يذكر مصطلح “عهد رئيس الجمهورية”، وإنما “ولاية الرئيس”، لكن استحضار فريق عون لكلمة “عهد”، كنوستالجيا للرئاسة بالجمهورية الأولى، التي تقلصت صلاحياتها بجمهورية ما بعد الطائف.
ويعتبر سعادة أن خروج عون بحشد جماهيري يأتي بعدما كرّس نفسه كصاحب حق تاريخي بالرئاسة، وأنه يحظى بتأييد أغلبية المسيحيين، و”الرئيس الذي يملك رصيدا شعبيا يحركه متى شاء، كإعادة تكوين لصورة ميشال عون قبل انتهاء الحرب الأهلية”.
ويعتقد باحوط أن الخروج الثاني لعون، وبمواكبة مؤيديه بالتيار الوطني الحر، “ليؤكد أنه لم يكن رئيسا على نمط سابقيه بلا أرضية شعبية واسعة. وفيما كرس الجزء الثاني من حياته السياسية للعودة لقصر بعبدا تعويضا عن هزيمته العسكرية عام 1989، ولإخفاء هزيمة من نوع آخر، كونه لم يحقق شروط تتويج أعظم عهد بلبنان كما تمناه”.
لكن علي فضل الله يعتبر أن خروجه طبيعي ويحسب له عدم التمسك بالبقاء أو المطالبة بالتمديد رغم الشغور الرئاسي.
ما الإشكاليات الدستورية والسياسية بنهاية عهد عون؟
يعتبر جوزيف باحوط أن أي فراغ دستوري مشكلة بحد ذاتها، ويعني أن المؤسسات الدستورية لم تنتج من تلقاء نفسها، خليفة للرئيس لتداول السلطة، مقابل ضبابية المشهد مع إصدار مرسوم استقالة الحكومة.
ويقول إن الفراغ يُدار بالتراث اللبناني، لكنه حاليا على وقع الانهيار، وعون سيعود بحلة زعيم معارض شعبوي، مهمته الأولى مواجهة حكومة ميقاتي المستقيلة.
ويرى فضل الله أن المشكلة الكبرى تتمحور في التضارب الكبير بقراءة الدستور؛ فطرف يقول إن المبدأ الأعلى عدم السماح بوجود فراغ مطلق بالسلطة، وآخر يعتبر أننا بمرحلة تصريف أعمال بمعناها الضيق ولا يمكن التوسع به.
وما يغلب حتى اللحظة، أن السقوف عالية بالمواجهة، مرجحا استمرار ميقاتي بعقد جلسات لجان بدل اجتماع الحكومة، وقد تفشل بفعل مقاطعة عدد من الوزراء. وهنا “سنكون أمام مشهد دولة ضعيفة للغاية تواجه تعثرا كبيرا حتى بتصريف الأعمال الروتينية”.
وقال إن رئيس الحكومة المستقيلة، قد يصبح رأس الدولة فعليا، ما يعزز مخاوف فريق عون. بينما “يكشف مرة جديدة أزمة شرح الدستور مقابل الخوف من طرح مناقشة النظام على الطاولة، لأنه عملية توزيع مغانم سياسية وطائفية”.
توازيا، يعبّر وسام سعادة عن مخاوف أمنية بظل الصراع على صلاحيات حكومة ميقاتي المستقيلة. ولكن “بالمقارنة بين فراغ 2014 والفراغ الحالي، يظهر أنه في السابق تمكّن الرئيس ميشال سليمان من تشكيل حكومة تمام سلام قبل مغادرته القصر. أما حاليا فالفراغ بشكله أصعب وبسياق أخطر لأنه يتلاقى مع انهيار غير مسبوق، وخاصة في مؤسسات الدولة”.
ما سيناريوهات مرحلة الشغور الرئاسي؟
يقول فضل الله إن ملف الرئاسة مرهون بعوامل خارجية بعد فشل الداخل بإنجازه، وأبرز المؤثرين فيه واشنطن، وفرنسا كموكل، والسعودية.
ويستبعد -مع كل من سعادة وباحوط- تقدم حظوظ المرشحين الطبيعيين للرئاسة مثل جبران باسيل وسليمان فرنجية وسمير جعجع.
ويتساءل سعادة: إلى أين بلغت مشكلة النظام طالما نتائج الانتخابات الديمقراطية لم تؤدّ وظيفتها بانتخاب رئيس مباشرة؟ معتبرا أن هاجس الجهات الخارجية مؤثر على لبنان، إن كان الرئيس المقبل سيكون مواليا لمعسكر إيران وحلفائها أم مواليا للغرب وحلفائه.
ومن بين السيناريوهات المطروحة وفق سعادة، أن يمهّد هذا الفراغ لانتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسا، و”حتى لو لم ينتخب جوزيف عون، ستحظى المؤسسة العسكرية بدعم دولي كبير للإمساك بمرحلة الفراغ الكبير”.
وقال “إذا كان الخيار التوجه لرئيس خلافي ومواجهة يكون السؤال فيها من يمسك البلد. وإذا كان رئيسا تقاطعيا، قد يكون على هيئة قائد الجيش”.
والأهم بحسب جوزيف باحوط، هو مدة الفراغ، التي توقع ألا تتجاوز الأشهر، مستبعدا الذهاب لسيناريو دراماتيكي.
ويقول إن الشروط المطلوبة لانتخاب رئيس بديهية، وهي أن تتكون أكثرية وازنة تصوّت لشخصية تحمل مواصفات مقبولة من أكبر شريحة ممكنة من القوى السياسية ومن الخارج، ولكن لم تنضج هوية صاحبها بعد.