عام على الحرب في السودان :( الأرض ارضنا والزمان زماننا ).. راشد دياب

صبيحة ١٥ ابريل ٢٠٢٣ لم يكن هناك ثمة ما يمكن ان يمنع إنطلاق الرصاصة الأولى – الجميع شهد بذلك – حرب واندلعت كنتاج طبيعي لجملة من المحاذير ، تراكمات لأخطاء سياسية و أمنية متطاولة لم تخطئها التقارير والبحوث التي كتبت على مدار سنوات سابقة و التي كانت تتحدث عن إنهيار الدولة السودانية إعتمادا على المفهوم الغربي للدولة و الذي يعتمد على القوة الإقتصادية و القوة العسكرية ، ونستون تشرشل لديه مقولة مهمة في هذا الجانب تعكس مدي قوة سيادة الدول وهي ( أن سيادة الدول تقاس بمدى نيران مدفعيتها ) عشرات التقارير عن الاوضاع في السودان كانت تتحدث عن انخفاض مستوى دخل الفرد و تدني الخدمات في مجالي التعليم والصحة وتفشي الاوبئة و الأمراض القاتلة و هجرة الكوادر المؤهلة للخارج و ظاهرتي النزوح والتشرد و ترييف المدن والهجرات الشرسة من خارج الحدود الى العمق السوداني وخاصة العاصمة ، ثم تمرد الأطراف ، كل ذلك وغيره بالاضافة الى العنصر الخارجي المتمثل في الارتهان للمشروع الاجنبي ، وقد ظلت هذه التقارير و الدراسات تحذر من نشوب حرب طاحنة في البلاد تحدث شلل تام في جهاز الدولة . وبينما يختلف الباحثون والمحللون حول بدايات الإنهيار من بداية السبعينيات أو نهايتها مع المصالحة الوطنية او في عهد الديمقراطية الثانية او انها بدات مع الانقاذ مطلع التسعينيات إلا ان التقديرات تتفق جميعها في حتمية الإنهيار .

اخيرا وقعت الحرب ، و فاقمت آثارها السالبة محاولات اختطاف القرار السياسي و الانفراد بالسلطة من قلة سياسية بعد انهيار نظام الانقاذ بثورة شعبية – حاولت هذه القلة فرض اعادة تركيب الدولة و نظمها قسراً بدعوى التحديث و الانفتاح على المجتمع الدولى – ورغم التقارير العسكرية والاخبار التي كانت تتحدث خلال الأشهر الأولى من الحرب عن تقدم مليشيا الدعم السريع المتمردة بسبب الدعم غير المتكافئ الذي تقدمه أطراف خارجية ، ورغم تقارير البنك الدولي وتوقعاته بانخفاض اقتصاد السودان بنحو الخمس في عام الحرب الا أن منطق الدولة خلال عام الحرب كان يمر و يتقدم بثبات على عكس متحركات ( عجال لاقن و الطوفان ) بكروزراتهم ( الحوامة ) التي كانت تمر عبر فيافي دارفور وكردفان نحو الخرطوم والجزيرة ( كما يمر طائر غريب في السماء ) .

وإذ ساهم تصدع البنية السياسية للقوى الوطنية في تغييب الدور الوطني و في تطويل امد الحرب فإن مخطط الحرب قد فشل فى تحقيق هدفه الأكبر وهو : هدم الدولة السودانية ، بل انتج إجماعاً وطنياً كبيراً ضد كل توجهات و اهداف من حاول فرض سياسة الامر الواقع و اختطاف المشهد السياسي بالضربة العسكرية ، بعد امتصاص صدمة الحرب وخلال عام كامل وعبر تضحيات جسام أثبت السودانيون والسودانيات ان لديهم مفهوم جديد يختلف مع الأساس الذي وضعه تشرشل لقوة الدولة والذي يعتمد على القوة العسكرية ونيران المدفعية ، وهو مفهوم الإسناد الأهلي لتماسك الدولة في كل ارجاء البلاد ، ولدي ثلاثة شواهد متسلسلة تاريخيا على ذلك :

( ١ )

بعد ستة اشهر من إندلاع الحرب وقبيل سقوط مدينة نيالا – ثاني اكبر مدينة سودانية – في ايدي قوات الدعم السريع بساعات ، يومها كان الرأي القائل بفقدان الجيش السوداني للقدرة العسكرية على دحر التمرد قد تعزز لدى الكثيرين وبلغ ذروته ، فجأة ومن بين مقاطع الفيديو المنتشرة بين السودانيين لتوثيق الحرب ، لفت انتباهي فيديو يقوم فيه شاب بتصوير عدد كبير من الشاحنات والعربات تصطف حول ما يشبه محطة وقود في منطقة خلوية خارج المدينة قبل ان يختم الشاب الفيديو بعبارة :

  • نحن وجيشنا وحركاتنا .. جت ، صيجنا من نيالا

الملفت في هذا المقطع المصور ليس هو هروب المواطنين وشلل الحياة وانعدامها في المدينة بعد دخول قوات الدعم السريع المتمردة اليها فقد عايشنا ذلك في الخرطوم وشاهدناه في الجنينة وزالنجي و ام روابة و الجزيرة و اي منطقة انتشرت فيها قوات الدعم السريع ، الملفت هو ( البهجة ) التي كانت تبدو من خلال تعابير الشاب ( المصيج ) من جحيم تلك القوات الى براح الدولة وامانها رفقة هذا العدد الضخم من مواطني نيالا و جيشها وحركاتها المسلحة على حد وصفه – ما تزال نيالا وخلال ستة اشهر خالية من السكان وتعاني من شلل تام بسبب إنعدام الأمن و انقطاع الكهرباء والخدمات – والحقيقة ان هذا المشهد الاحتفالي العفوي بالخروج الجماعي من مناطق انتشار قوات الدعم السريع المتمردة الى المناطق التي يسيطر عليها الجيش كان هو اول اعلان شعبي لفشل مخطط الحرب فى تحقيق هدفه الأكبر وهو : هدم الدولة السودانية . بل غذى هذا الحدث مشاعر الوحدة الوطنية وروح الإجماع السائدة حاليا

( ٢ )

فيديو ( نحن وجيشنا وحركاتنا جت صيجنا من نيالا ) لم يكن وحيدا كما لم يكن معزولا عن باقي السودان ، بعدها بشهر اتاحت لي جولة قمت بها في ثمانية ولايات سودانية من دنقلا شمالي السودان الى عطبرة في ولاية نهر النيل ، سنكات و بورتسودان في البحر الأحمر ، كسلا ، القضارف ، مدني والهلالية والحصاحيصا و الحاج عبد الله في ولاية الجزيرة قبل دخول المليشيا المتمردة اليها باسابيع ، سنجة وسنار وكركوج في ولاية سنار ، كوستي وربك في ولاية النيل الابيض ، وعلى مدى اسبوعين اتاحت لي هذه الجولة لقاء عدد كبير من رموز و قيادات المجتمع المدني والاهلي في السودان ، كما قابلت مواطنيين عاديين ومواطنات ، وقتها كان الموسم الزراعي الصيفي يبشر بحصاد وفير وارقام قياسية لانتاج لسمسم والذرة ونهر النيل والشمالية كانت تسير القوافل لدعم القوات المسلحة و تنظم تدريب المستنفرين و ولايات سنار والنيل الازرق والجزيرة والقضارف كانت على اهبة الإستعداد بعد الفراغ من موسم الحصاد للدفاع عن ولاياتهم ، أسفر هذا الاستعداد التام عن خط سياسي و أمني جسد شعار السودانيين ( جيش واحد شعب واحد ) وهو خط ( المقاومة الشعبية المسلحة ) كمنصة متفق عليها و مؤيدة بغير تشويه من اغلبية القوى الوطنية فى الداخل ومن قيادة الجيش و السلطة العسكرية الحاكمة ، هذه المقاومة تمثل أعلى استجابة و تفاعل تلقائي للشعب السودانى ، وهي كذلك تعبير عن ارادة وطنية شاملة انخرط فيها كل الوان الطيف الاجتماعي و السياسي لصد العدوان و الدفاع عن الأرض و العرض ، حتى لو لا قدر الله هزم جيشنا الذى نفديه بكل غال ونفيس أو انكسر .

( ٣ )

تدريجيا ادى نشوب الحرب في السودان وتطاول امدها الى تحريك جمود حركة المجتمع و إزكاء روح المسئولية المجتمعية و تجاوز كل اسباب الفرقة و التشتت و نبذ خطاب الكراهية و تقسيم المجتمع الى قوى ثورة وقوى النظام القديم من الإسلاميين المعروفين شعبيا بالكيزان وتقدم رموز من الفنانين والمهنيين والشباب والطلاب في صفوف المقاومة الشعبية و اضحى ظهور اسماء بارزة وسط الثوار ومجموعات متطرفة مثل ( غاضبون ) تقف مع الجيش جنبا الى جنب مشهدا عاديا فلم يتفاجأ رواد وسائل التواصل الاجتماعي من ظهور صورة للرمز الثوري ( القائد ليفاي المجنون ) مع القائد العام للجيش في امدرمان عشية مرور عام على الحرب في السودان ، قبلها بأيام وخلال ايام عيد الفطر المبارك تفاعل ملايين السودانيين عبر العالم مع أنشودة ( براؤون يا رسول الله ، نبذل الأرواح في سبيل الله ) حيث سيطرت الانشودة على منصات التواصل الاجتماعي بعد ان تغنت بها الفنانة الشعبية عشة الجبل و المطرب الشاب احمد فتح الله الشهير ب ( البنادول ) ومن بعدهما جموع من الشباب السوداني النازح والمقيم في مصر وتركيا وبريطانيا – وبالنظر للمشروع الاجنبي الذي اطلق شرارة الحرب في السودان واستخدم تقسيم المجتمع كواحد من اسلحة الحرب تجد ان المجتمع نفسه قد نجح في تفكيك واحدة من اهم ادوات الحرب على الدولة . وربما فات على المستعمر الجديد ان التنظيمات الثورية المصنوعة لم تنضج بما فيه الكفاية للإعتياد على الموت والإغتصاب والسلب والنهب و غيرها من الانتهاكات الإنسانية كما ارادها مؤسسوها .

خلاصة القول ان مخطط الحرب لم يفشل فقط في تحقيق هدفه في هدم الدولة السودانية بل اتاح فرصة كبيرة لكل السودانيين لاستعادة الروح الوطنية الجامعة لتجاوز هذه المحنة و بناء نظام يقوم على العدل والحرية و التعاون يجد فيه كل مواطن ما يصبو اليه من وطنه و مجتمعه من امن و سلام و رخاء ، و يطمئن فيه على مستقبل البلاد .

قدم السودانيون ثمنا باهظا من التضحيات مقابل هذه الفرصة التاريخية ، تضحيات ليست طارئة ولا مصادفة بل نابعة من إحساس بالعزة والمنعة والطمأنينة والثراء موروث من الآباء والأجداد في مواجهة صلف وغرور المستعمر الاجنبي ، إحساس يذكرنا بتعبير كتبه أديبنا الطيب صالح لا اجد أكثر منه ( قوة ) في توصيف ( قوة ) ثبات السودانيين وتضحياتهم في حربهم ضد التآمر الخارجي والعدوان والبغي الذي استهدفهم واستهدف سيادتهم الوطنية ، يقول الطيب صالح : ( كنت أعلم أن ذلك الإحساس حق عند السودانيين ، من الطريقة التي يمشون بها ،.لا يمشون مختالين ، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس ، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *