يتميز السودان بموقع فريد يشار اليه بقلب القارة الافريقية والجسر الذي يربط بين شماله العروبي وجنوبه الافريقي ويتوسط القرن الافريقي الذي شهد توترات في دوله استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، ومن جواره الغربي إلى المحيط والتي لم تسلم دولها من الاختلالات الامنية في افريقيا الوسطى، ليبيريا، سيراليون، نيجيريا )بوكو حرام(، ودول افريقيا الفرنكوفونية. بالإضافة الى ذلك يتميز بموارده البشرية والطبيعية، زراعية، رعوية ومعادن، وبرغم كل هذا الثراء الطبيعي النوعي إلا ان أوضاع البلاد قد ابتليت بالصراع وحالة من عدم الاستقرار السياسي منذ استقلالها في عام ١٩٥٦ ولم يتسنى لقيادات البلاد السياسية ونخبه المجتمعية التي ظلت ولا زالت تتصارع حول من يحكم السودان من تحقيق الإجماع حول مشروع وطني
يُؤسس عليه بناء الدولة السودانية. كان ذلك سببا لاستدامة الدائرة الشريرة )ديمقراطية، انقلاب، انتفاضة، ديمقراطية، انقلاب، انتفاضة( وشكل مدخلاا عمق الاختلاف والتنازع حول نظام الحكم وشكله، قضايا الهُوِيَّة وحقوق الإنسان، والدستور وكانت النتيجة النهائية الحرب بين مكوناته العسكرية والسياسية والمجتمعية.
لقد اندلعت ثوره ديسمبر المجيدة كنتاج رافض لسياسات الدولة في إطار معالجاتها للازمات المعاشية وأخرى تتصل بإشاعة العدالة والحريات وتحقيق السلام فاستجابت القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى وانحازت لجانب الشعب وتأسست شراكة بينه والمكون المدني الذي تمثله الحرية والتغيير لإدارة البلاد وتشكلت حكومة الفترة الانتقالية . كان من المتوقع من الحكومة الانتقالية بعد تشكيلها أن تنطلق من مرتكزات وأسس ولكنها واجهت تحديات جمة منها ازمة اقتصادية طاحنة، ازدياد حدة الاستقطاب السياسي، الاستقطاب الجهوي والقبلي، وفي المقابل تراجع الحس الوطني وبسرعة كبيرة. لقد تفاقمت الأزمة السياسية في البلاد وتعقدت نتيجة عزل واقصاء القوى السياسية الأخرى وتجاوز حتى القوى المستقلة غير المتحزبة مما أدى إلى تعميق الخلاف وزاد من حدة الاستقطاب السياسي والجهوي والإثني الذي صاحب الاتفاق الأطاري واتساع دائرة المعارضة والاصطفاف المضاد . لقد كان الواقع يشير إلى
أنه وفي ظل الانقسامات السياسية وما كان يشهده السودان من تحديات داخلية وتجاذبات خارجية يصعب على البلاد ان تنعم بفترة انتقالية تعبر بالسودان بسلاسة إلى انتخابات حرة ونزيهة ما لم يتوصل السودانيون بمحض اراد تهم دون ضغوط او املاءآت خارجية إلى توافق وطني بحده الأدنى.
لم تقتصر حدة الاستقطاب على القوى السياسية والمدنية بل امتد إلى المنظومة الأمنية وتحولت إلى الحرب التي اندلعت بين القوات المسلحة والدعم السريع في ١٥ ابريل ٢٠٢٣ بنتائج كارثية حولت البلاد إلى خراب، وتحولت إلى أعمال نهب وسرقة وقتل واغتصاب، دمرت بنية البلاد التحتية ومرافقها الخدمية، وتعقدت المشكلة بطرد ما بين خمسة وسبعة مليون مواطن من منازلهم، نهبها واحتلالها والانهاك والتآكل البطيء للدولة من خلال العمليات العسكرية والتي يمكن ان تكون لها عواقب وخيمة خاصة بعد تمدد الحرب إلى الولايات توسيعا لنطاقها وترسيخا لمفهوم الدولة الفاشلة. وازاء ما تشهده البلاد من تدمير ممنهج واحتمالات تحول الازمة إلى حرب أهلية يصعب على الجميع احتوائه اضحى هنالك واقع يطرح نفسه علي النخب السودانية ينبغي الإشارة إليه: هل تبقى هنالك ما يختلف أو يتصارع لأجله أو عليه للاستئثار به؟ وهل هنالك إرادة وطنية وقدرة علي مواجهة التحدي الخطير بتحمل المسؤولية الوطنية
والتاريخية في أن يكون السودان أو لا يكون ؟ وهل تمتلك النخب السياسية السودانية الشجاعة بالارتفاع والسمو عن الذات والمكاسب الشخصية والحزبية ونبذ الخلافات بتوحيد الصف وجمع الكلمة من أجل إعلاء راية الوطن تاريخا وحضارة وقيم؟ .
لا بد من الإشارة إلى إن ابعاد الازمة السياسية والحرب في السودان بخلفياته واشكاله المختلفة منذ الاستقلال تتلخص في بعد داخلي تمثل في خلاف سياسي أدى لنزاعات وصراعات وثورات مدنية ومسلحة حول شكل ونظام الحكم ، تقاسم السلطة والثروة، والهوية وعلاقة الدين بالدولة والدستور وهذه تمثل جذور الازمة السودانية؛ وبعد خارجي تمثل في استغلال بعض الدول من هذا الخلاف كمنصة انطلاق لتحقيق اهدافها ومصالحها في البلاد وتدخلها في شؤونها وانتهاك سيادتها وقرارها الوطني. اذن السؤال الذي يطرح نفسه هو؛ ما هي الخيارات المتاحة لتجاوز أزمة البلاد ومحنتها ولتفادي انزلاقها إلى حرب أهلية يعصف بوحدة البلاد، امنها واستقرارها في المدى البعيد؟
لتحقيق التسوية السياسية في السودان لا بد من تخطي عقبتين، الأولى تعدد المبادرات والمسارات الإقليمية والدولية والثانية انعدام الثقة بين المكونات السياسية والمجتمعية السودانية، خاصة بعد تباعد المسافات وتصاعد مشاعر التخوين بين القوى السياسية والمجتمعية بعد قيام الثورة ودخول البلاد في مرحلة جديدة من انعدام الثقة بعد اندلاع الحرب .
وعليه لا بد من إرادة سياسية لاسترجاع الثقة بين كل الأطراف ولن يحدث ذلك الا بإقرار الجميع بان ما يحيط ويحدق بالسودان من تحديات ومخاطر تهدد امنه واستقراره ووحدته هو نتاج للنزاعات وللاستقطاب السياسي والقبلي
والجهوي الحاد وأن الجميع شركاء في معالجة التحديات التي تواجه البلاد. بالإضافة إلى ذلك الالتزام الصادق بأعلاء راية الوطن ووحدة شعبه وترابه وامنه القومي مع التأكيد على أن السودان وما يواجه من ظرف لا يمكن أن تحكمه مجموعة أو فئة سياسية منفردة دون توافق وطني أو تفويض شعبي عبر انتخابات حرة ونزيهة وأن توسيع دائرة المشاركة للانتقال للحكم المدني الديمقراطي هو السبيل الوحيد الذي يضمن العيش الكريم للجميع في وطن ينعم بالأمن والاستقرار ويسع الجميع.
وبما أن الأزمة السياسية السودانية ليست وليدة اليوم بل ظلت تلازم جميع أنظمة الحكم المتعاقبة منذ استقلال السودان فمن الضرورة مخاطبة جذور الازمة التاريخية والتزام الجميع بتبني وبناء مشروع وطني وعقد اجتماعي يؤسس لدستور دائم بالبلاد.
في اعتقادنا أن الاستقطاب الذي صاحب الاتفاق الأطاري كان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اندلاع الحرب في البلاد، وعليه يبقى التوافق السياسي حول برنامج لإدارة الفترة الانتقالية بما في ذلك مخاطبة جذور الازمة التاريخية يشكل احد المداخل المهمة لإنهاء الحرب وتسوية الازمة عبر أربعة محاور تشمل المحور العسكري الامني الإنساني الذي يعني بوقف اطلاق النار و إنهاء الحرب وتيسير وتسهيل إيصال المساعدات والعون الإنساني للمتأثرين والمحتاجين . وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية قد بذلت جهودا مضنية في منبر جدة من أجل وصول الأطراف إلى اتفاق ولكن تعثرت المفاوضات وتم تعليقها دون الوصول إلى اتفاق بعد ان رفضت قوات الدعم السريع الخروج من منازل المواطنين والاعيان المدنية.
ولكن ثمة أسئلة كثيرة تدور في الأذهان حول مدى جدية المجتمع الدولي لدعم وإنجاح مفاوضات منبر جدة، وعديد الشواهد تشير إلى أن موقف المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص الموقف الأمريكي والاوروبي ما زال مبهما. فلقد
شهد المنبر تراجعا ملحوظا للدور الأمريكي خلال الأشهر القليلة الماضية وانسحابا مبكراا بعد أيام معدودة من بدء مفوضات الجولة الأخيرة، علما بان الولايات الأمريكية قامت بإصدار عقوبات بحق افراد اتهموا بتأجيج الحرب في السودان ولكن من الواضح أنها إجراءات لذر الرماد في العيون ولن تسهم في تخفيض حدة المواجهات العسكرية لأن الذين يقومون بتأجيج الصراع المسلح في السودان لم تطالهم بعد العقوبات الامريكية، ويصعب على المرء أن يتخيل أن الولايات المتحدة وهي في أوج قوتها تعجز عن تحديد الفاعلين، في تأجيج الحرب في السودان، دولاا وجماعات
وأفراد.
أما الدول الأوربية، وفي مقدمتهم أعضاء الترويكا السودانية فلقد تعمدوا الاستمرار في نفس نهجهم القديم قبل الحرب وذلك بإعادة انتاج أزمة الأطاري في شكل جديد وأعمق، ودول أوروبية أخرى تتغافل عن عمد وتغمض عينيها عن شحنات الأسلحة التي تتدفق عبر حدود السودان من دول الجوار كما يحدث في الجارة تشاد التي سمحت باستخدام مطار ام جرس لنقل المعدات والأسلحة والمؤن لتعزيز القدرات العسكرية للدعم السريع أمام صمت فرنسي مريب وسكوت
مطبق.
المحور الثاني هو المحور السياسي الذي يتطلب توفر الارادة الوطنية والسياسية القوية والصادقة نحو التوافق لتأسيس الدولة السودانية الحديثة. وتجدر الإشارة إلى ان انشاء المظلة الإقليمية الدولية برعاية الاتحاد الإفريقي والإيقاد والتي تضم جامعة الدول العربية وبعض الدول والمنظمات ستقود إلى توحيد الجهود الاقليمية والدولية لابتدار حوار سياسي حول الأزمة السودانية، وتشهد هذه الأيام تحركات إقليمية ودولية تحت هذه المظلة للبدء في المسار السياسي بتعقيداته المختلفة.
المحور الثالث هو المحور المجتمعي من اجل الاتفاق على مضامين وثيقة العقد الاجتماعي لتنظيم العلاقات بين اهل السودان خاصة قضايا الأرض واستخداماتها، الهوية و إدارة شان الدولة. وأخيرا المحور الخارجي، الدولي، الاقليمي والجواري، والشراكة البينية لتامين الاستقرار والأمن خاصة في مواجهة المساعي الدولية لإحداث التغيير الديمغرافي في منطقة الساحل وجنوب ووسط الصحراء وبصفة خاصة في السودان وتشاد، وكيف يمكن تحويل التنافس الدولي والاقليمي للاستحواذ على موارد ، وجغرافية وتوجه السودان إلى شراكة منافع وتبادل مصالح.
ان ما يحيط بالوطن من تحديات يتطلب من كل الأطراف التناول السليم لطبيعة الازمة السياسية والحرب بالوكالة التي طالت البلاد لتحقيق اهدافا لدول تتصارع حول تحقيق مصالحها في السودان . فاذا تفهمت الأطراف السياسية عمق المشكلة فإنها ستشكل قاعدة ومدخلاا لإنهاء الحرب عبر حوار جامع دون اقصاء يخاطب جذور الازمة السودانية ويحقق التوافق حول برنامج لإدارة فترة تأسيسية انتقالية وعقد اجتماعي ينظم ويحكم العلاقات بين اهل السودان تمثل القاعدة والاساس لديمومة ما يتم التوافق عليه من وثيقة وطنية ودستورية توافقية بين الاطراف السياسية والمجتمعية . فما لم يتم الحوار العميق حوله والذي تشمل مضامينه كل تللك القضايا والتوافق عليها فإنها ستشكل البوابة لتنفيذ مخطط المرحلة الثانية من الحرب في نسختها الاهلية لزعزعة الامن والسلم داخل وخارج السودان خاصة في ظل كثافة الانتشار الكثيف للسلاح وصعوبة جمعه ونزعه في هذه المرحلة وسيكون التدخل الدولي والاقليمي قاب قوسين .