ساءت العلاقات الدبلوماسية بين السودان ودول الخليج بعد غزو القوات العراقية للكويت (2 أغسطس 1990) وعقب اعتراض البشير على دخول القوات الغربية للمنطقة في مؤتمر قمة القاهرة (10 أغسطس 1990) ومناداته بالوساطة وحل المشكلة داخل البيت العربي. وكلّف هذا الموقف السودان خسارة علاقات بدول الخليج وصَنّفته من بين (دول الضد).
وحين تسوء العلاقات تنشط الدول في الكيد لبعضها. ولهذا السبب جنّدت المخابرات السعودية بعض السودانيين العاملين بها للعمل معها.
وكان من بين من جنّدتهم ضابط شرطة معاش، وكُلّفَ بالإشراف على آخرين مهمتهم رصد السودانيين الذين تعاطفوا مع صدام حسين، أو جهروا بمعارضتهم لوجود القوات الأمريكية في السعودية، وكذلك الإسلاميين السودانيين.
وأعدّ فريق ذلك الضابط قوائم بكل أولئك، لتقوم السلطات السعودية بإنهاء عقود عملهم بالمملكة.
وتضرر من عمل ذلك الضابط عدد كبير من السودانيين وخاصة الإسلاميين، حتى ولو لم يعترضوا على أي شيئ.
وبعد سنوات كنت في زيارة لصديق في الخرطوم، وتصادف أن زاره ذلك الضابط، وعرّفني به قائلاً إنه قريب زوجته؛ وعرفه بي.. عندها قلت له: إنني عاصرته في السعودية، فحين كان هو بجدة، كنت أنا قنصلاً بالرياض.
عندها انتفض الرجل واقفاً كالملدوغ، وقال لصديقي: أنا لازم أمشي الآن!! وسط دهشة الصديق!! واتخذ سبيله نحو الباب دون توقف.
لكنني لم أندهش، فقد عرفت أن الرجل انزعج من قولي: إنني كنت قنصلاً إبّان فترته بالمملكة؛ لأن أمر القنصليات كانت يُوكَل لضباط الأمن منذ عهد نميري؛ ولأن المريب يقول خذوني دائماً، فقد ساورته مخاوف أنني سأشير لما كان فعله بالسودانيين.
لم يكن الرجل يعلم أن الإنقاذ جعلت مسؤولية القنصليات للدبلوماسيين وليس لضباط الأمن.
بالطبع كنت أعلم تفاصيل قوائمه، فجهة الاختصاص كانت تحيطني علماً فقط لتضعني في الصورة. وما كان يمكنني أن أصرح له بما إئتمنتني عليه الجهة المختصة، فليس هذا عملي.
خلال تلك الفترة في السعودية كان للدبلوماسيين كِفْل من المضايقات من قِبَل المخابرات. وكانت فترة توتر خاصة للسيدات زوجات العاملين بالسفارة؛ فقد كُنّ يَرَيْنَ (المراقبة المفتوحة) التي أُخْضِعَ لها الأزواج.
وكان لي النصيب الأوْفَى من المضايقات.
ففي يوم خرجت وأسرتي لدعوة عشاء وحين رجعنا وجدنا تحف ولوحات في منزلي كُسّرت ووضعت في غرفة النوم.
كان واضحاً لنا أن تلك العملية تمّت عبر عملية (دخول سري) Break in بلغة أهل المخابرات!
وزادت تلك العملية من توتر وخوف زوجتي.
ثمة حادثة مهمة كشفت عن أن جهاز الهاتف بمنزلي كان يُخضع لعملية تنصت Eavesdropping. ذلك أن جرس الباب كان يرن عدة مرات خلال النهار وأنا بالسفارة، وحين تفتح زوجتي الباب لا تجد أحداً. ثم يتولى الهاتف المهمة، فيرن الهاتف وحين ترفعه لا يتحدث أحد. وتتكرر عمليات رنين جرس الباب ورنين الهاتف بصورة متواصلة ومزعجة دون أن يكون هناك أحد. وزوجتي تتقافز بين رنين هذا ورنين ذاك!!
وبتكرار هذا الملاحقات والمضايقات المزعجة أصبحت زوجتي أكثر خوفاً.
وفي أحد تلك الأيام وبعد تكرار المضايقات اتصلت بي في المكتب منهارة تبكي وهي تقول بصورة هستيرية؛ سيقتلونني.. سيقتلونني.. سيقتلونني. قلت لها لأطمئنها: لا تخافي، لن يقتلوك؛ لأنهم إن قتللوك سنقتل زوجة دبلوماسي سعودي بالخرطوم؛ وهم يسمعونني الآن، وكررت عبارة: (هم يسمعونني الآن).
ومنذ ذلك اليوم توقفت الأجراس عن الرنين!!! مما يؤكد أن هاتفي كان موضوعاً قيد المراقبة، وأن الرسالة قد وصلت.
في الاسبوع الثاني لوصولي للرياض لاحظت أن عربة تقف بشكل دائم أمام منزلي، بل وتتبع عربتي أينما ذهبت، تراقبني (مراقبة مفتوحة) بلغة المخابرات. وهذا الضرب من المراقبة يقصد به بث الخوف والإرباك.
وحقيقة ما ساورني أدنى خوف، واعتبرت أن هذا تحدٍ جديد وينبغي عليّ تجاوزه بطرق مختلفة.
ثم ما هي إلاّ أيام حتى بدأت صواريخ اسكود العراقية تنهمر على الرياض.. وكانت صافرات الإنذار تدوي في المدينة مُؤذِنة بقرب وصول الصاروخ؛ وتبث أجهزة الإعلام تحذيرات للمواطنين وتوجههم بالاختباء في الأماكن الحصينة بالمنازل، مثل بئر السلم.
وفي كل مرة تدوي الصافرة أنزل أنا لسائق العربة التي تراقبني طالباً منه دخول المنزل والاختباء في مكان حصين؛ قائلاً له: أنت أخي ومسلم وأنا أخشى عليك!!
وللأمانة كان هدفي الأول هو التأثير عليه وهزيمته نفسيّاً، ولأقنعه أن الشخص الذي يراقبه لديه مشاعر إنسانية، وليس مُجرِماً خطراً كما قد يكون صُوّر له.
كنت أفعل ذلك كلما دوت صافرات الانذار، وفي أي ساعة من الليل. ولم أكن أمَلْ، ولو بلغت عدد المرات أربعاً في الليلة الواحدة.
وقد أتت هذه الجهود أكلها؛ لأن رجل الأمن بكى في مرة من شدة التأثر، وقال لي:
“والله أدري إنك رجال (ريّال) طيب، بس يقولوا لي راقبو وأعرف فين يمشي، ومين يزورو، ومتى يرجع، ومتى ينام”!!! وانتحب الرجل ثانيةً.
ومرة ذهبت لمطعم؛ وكان يتبعني، فذهبت إليه وألححت عليه أن ينزل ليتناول وجبة معي، فنزل.. ونحن بالمطعم قال:
والله لو شافوني جماعتنا في المخابرات آكل معك لقالوا علي: أكبر خائن!!
ومرات أعطيه طعام من المنزل. فكان كثير الاعتذار لي، ويقول لي: تأكد لن أضرك، وشرفي لن أضرك، أو عبارة من هذا القبيل!!!
كان همّي الأكبر هو أن لا يتضرر معارفي ومن أزورهم ممن لي صلة بهم، بأي صورة. وهذا أوجب عليّ أن أتخلص من رقابة رجل الأمن الذي يتبعني. وكان ذلك تحدٍ يوجب علي أن أجترح وسيلة، بل حيلة جديدة، جديدة في كل مرة. وحقيقةً وفقت في ذلك.
وكان الاستثناء في علاقاتي وزياراتي هو قريبي بابكر حمد عبد الوهاب؛ الذي كنت أتعمّد وأحرص على مناداته حين أهاتفه (بابْنِ عمي) حتى أوصل رسالة أن علاقتي به أسرية.. وحقيقةً كان منزل ذلك الرجل الشهم الكريم مثابةً وملاذاً.
حتى زوجتي كانوا يراقبونها.
ذات مرة ذهبت لتشتري صيغة ذهبية، لكنها لم تتمكن.
قالت، حين عادت خالية الوفاض: إن رجل الأمن كان يطاردها من متجر ذهب لآخر، فخافت ولم تستطع الشراء. والسيدات يستمتعن بعملية التَسَوّق ومقارنة المنتجات ومعرفة أنواع المعروض، وتأخذ عملية الاستمتاع بالتسوق عندهُنّ زمناً. لكن تلك المسكينة حُرمت من ذلك الاستمتاع، بل الترفيه، في بلدٍ يبقى التَسَوّق فيه هو التّرْفِيه الوحيد.
لم تكن ثمة مراعاة لموجبات اتفاقية فيينا Vienna Convention التي توفر الحماية والحصانة للدبلوماسيين؛ والتي تحرّم اقتحام منازلهم أو مكاتبهم أو مركباتهم؛ وكذلك حصانتهم في أنفسهم وزوجاتهم وأبنائهم، ووثائقهم.
وكانت تلك الخروقات شاملة لكل الدبلوماسيين، وحتى السفير كان يُخضع للمراقبة المفتوحة.. هذا رغم أن السودان احترم نصوص اتفاقية فيينا إزاء الدبلوماسيين السعوديين في الخرطوم، عدا حادثتين اثنتين فقط، حين بلغت خروقات المخابرات السعودية ذروتها إزاء الدبلوماسيين السودانيين وتطاول أمدها.
وسبق أن ذكرت حادثة سجننا كلنا بسفيرنا في السفارة ابتداء من يوم 17 يناير 1991 وليومين.
📍السفير عبدالله الأزرق
—————————————
30 أكتوبر 2023