مع وجود فجوة تمويل تلوح في الأفق، قد يتحول الملاك إلى بائعين متعثرين
كان المقر الجديد اللامع لـ “دويتشه بنك” في لندن، أحد الأصول المرغوب فيها، حيث اجتذب عطاءات تقترب من مليار جنيه إسترليني (1.1 مليار دولار)، قبل أن تزحف آلة الحرب الروسية في أوكرانيا وتغير المشهد.
تسبب الغزو في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل كبير، مما دفع البنوك المركزية إلى إطلاق العنان لجولاتها الأكثر عدوانية من التشديد النقدي هذا القرن، وهدد أسس الازدهار العقاري في أوروبا على مدى عقد من الزمان. ومع وجود فجوة تمويل تلوح في الأفق، قد يتحول الملاك إلى بائعين متعثرين.
يأتي ذلك، فيما كانت الأسواق العامة تدق ناقوس الخطر بشأن العقارات منذ شهور، حيث انخفض مؤشر Stoxx 600 للعقارات بأكثر من 40% هذا العام، ووصل إلى التقييمات التي لم نشهدها منذ الأزمة المالية العالمية. لكن مع وجود الكثير من المتاجرة في العقارات بشكل خاص، كان التأثير الحقيقي لنهاية عصر الأموال الرخيصة بطيئاً في الظهور، حتى الآن.
قامت مجموعة Land Securities Group Plc، المطورة للمبنى المكون من 16 طابقاً والذي سيضم موظفي دويتشه بنك في لندن اعتباراً من أوائل العام المقبل، بإغلاق عملية البيع الشهر الماضي، ووافقت على سعر أقل بنحو 15% من العروض الأولية التي تم تقديمها قبل أن تهاجم روسيا أوكرانيا.
كما تم إلغاء المبيعات المخطط لها لمباني تذكارية مثل المقر الرئيسي لبنك أميركا في لندن بجوار كاتدرائية القديس بولس، مما يعني أن هناك عدداً قليلاً من الصفقات التي يمكن على أساسها الحكم على الحقائق الجديدة. بشكل عام، تم سحب حوالي 6 مليارات جنيه إسترليني من مخزون مكاتب لندن من السوق، وفقاً لتقديرات شركة CBRE Group Inc.
قال مؤسس شركة هينلي إنفستمنت مانجمنت للأسهم العقارية، إيان ريكوود: “السوق تجمدت رغم وجود البائعين والمشترين، والعقارات، إلا أن كلا الطرفين يخشون التحرك”.
ويقدر رئيس قسم الأبحاث والاستراتيجيات في AEW Capital Management LP، هانز فرينسن، أن تبلغ فجوة إعادة التمويل المحتملة، 24 مليار يورو (23.5 مليار دولار) على مدى السنوات الثلاث المقبلة، على القروض المضمونة مقابل العقارات في بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
بدورها، قالت نيكول لوكس، كبيرة الباحثين في كلية بايز للأعمال، والتي تعد تقريراً نصف سنوي عن الإقراض العقاري البريطاني: “كل هذا سيؤدي حتماً إلى عمليات بيع قسرية بين مالكي العقارات التجارية والسكنية. سوف يلعب هذا التحول بقوة لصالح المستثمرين الأثرياء الذين يمكنهم الحصول على الصفقات”.
وتأكيداً لهذا الاتجاه، تخطط شركة Vonovia SE – أكبر مالك عام في أوروبا – لبيع أكثر من 13 مليار يورو من الأصول لخفض الديون بعد انفجار تكلفة الاقتراض وانهيار سعر أسهمها.
وتتطلع شركات العقارات الأخرى التي تحمل ديوناً رخيصة – بما في ذلك Aroundtown SA وAdler Group SA وSBB السويدية – إلى التخلص من الأصول قبل استحقاق القروض.
أسواق الديون.. مفاتيح العقارات
تتتبع فئة الأصول الأكبر في العالم عموماً ما يكسبه المستثمرون من العائد على أدوات الدين الحكومي، وتقدم علاوة طفيفة نظراً لارتفاع المخاطر.
وخلال سنوات أسعار الفائدة السلبية، كان المشترون على استعداد لقبول الحد الأدنى من العائدات على استثماراتهم. لكن أسعار الفائدة آخذة في الارتفاع، وحتى عوائد السندات الألمانية القوية لأجل 10 سنوات ارتفعت بنحو 2.3% هذا العام.
هذا الضغط يتدفق إلى أسواق العقارات. ففيما تشير صفقة دويتشه بنك في لندن إلى أن عائدات المكاتب الرئيسية في العاصمة البريطانية قد انتقلت إلى حوالي 4.7% من 4%، وفقاً لمحلل بلومبرغ إنتليجنس، سو موندن، يقارن ذلك مع ما حققه المقر الرئيسي لشركة UBS Group AG في لندن، من عائداً بنسبة 3.6% عندما تم بيعه في ديسمبر الماضي، وفقاً لما ذكرته “بلومبرغ”.
سيكون الوضع في قارة أوروبا أسوأ بكثير حيث استمرت العائدات هناك في الانكماش على مدى السنوات الخمس الماضية، بينما أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إبقاء أسعار لندن تحت سقف محدد.
هذا أمر مقلق لشركات العقارات، لأنه حتى التغييرات الصغيرة لها تأثير كبير على التقييمات عندما تكون العائدات منخفضة للغاية. على سبيل المثال، ستنخفض قيمة المبنى الذي يبلغ دخله الإيجاري 10 ملايين دولار بنحو 100 مليون دولار إذا انتقل العائد إلى 2.5% من 2%. وهذا يعني أن الميزانيات العمومية تخاطر بالتذبذب إذا تم تخفيض الأصول.
حتى الآن يصر الملاك على استمرار التقييمات، حيث طمأنت Vonovia المستثمرين مؤخراً بأن القيم الدفترية للربع الثالث من المرجح أن تكون مستقرة أو مرتفعة. وقالت شركة الأبحاث العقارية غرين ستريت في مذكرة إن التفاؤل يشير إلى أن المثمنين “متأخرون عن المنحنى أكثر مما كنا نعتقد”.
ويمكن أن تكون الزيادات في الإيجارات وسيلة لدعم التقييمات، لكن مع فترات الركود المؤلمة التي تلوح في الأفق في جميع أنحاء المنطقة وارتفاع التكاليف، فإن الشركات والمستهلكين يعانون بالفعل من ضائقة.
من المؤكد أن أساسيات الملكية لا تزال قوية، إذ أن الطلب على المساحات الجديدة قوي، والشواغر منخفضة في الغالب ومن المرجح أن يحافظ التضخم على تقليص العروض الجديدة عن طريق ردع البناء. وتقدر شركة Savills Plc أن أكثر من 40% من مشاريع المكاتب في لندن التي كان من المقرر بناؤها بحلول العام 2026 قد تأخرت.. بعضها لأكثر من عام.
وباستثناء بعض القيم المتطرفة، فإن مستويات الديون في شركات العقارات متواضعة مقارنة مع فائض ما قبل الأزمة المالية.
هل الانهيار قادم؟
من جانبه، قال رئيس قسم العقارات لمنطقة أوروبا في عملاق الأسهم الخاصة، بلاكستون، جيمس سيبالا: “تاريخياً، كان الانكماش في سوق العقارات مدفوعاً بأحد أمرين: الكثير من الديون في النظام أو الكثير من الرافعات.. وكلاهما غير موجود اليوم”.
هذا الرأي المتفائل لم يوقف مسار العقارات، حيث انخفضت أسعار الأسهم بشكل كبير لدرجة أنها تدل على أن قيمة المحافظ الاستثمارية لأكبر الملاك في القارة ستنخفض بأكثر من 39%، وفقاً لحسابات بلومبرغ إنتليجنس.
إذا كانت الأسواق العامة على حق، فإن انهياراً بهذا الحجم سيؤدي إلى موجة من حبس الرهن العقاري على نطاق لم نشهده منذ الأزمة المالية العالمية.
قال بيتر باباداكوس، رئيس الأبحاث الأوروبية في جرين ستريت: “أود أن أثق في الإشارة الواردة من أسواق رأس المال في ما يتعلق بالوجهة التي نتجه إليها، أكثر مما كنت سأثق في البيانات المتعلقة بالإيجارات والإشغال والاستحواذ”.
كما تغير هيكل أسواق الديون العقارية في أوروبا بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر الماضية، مما تسبب في حدوث مشكلات جديدة مقارنة بالانهيار الأخير. ساعد برنامج شراء الأصول التابع للبنك المركزي الأوروبي في جعل الأمر أكثر جاذبية لأصحاب العقارات لبيع السندات بدلاً من استخدام قروض الرهن العقاري المضمونة لتمويل ممتلكاتهم.
تمتلك الشركات العقارية حوالي 80 مليار يورو من السندات المستحقة في السنوات الثلاث المقبلة، وفقاً للبيانات التي جمعتها بلومبرغ. كما تم بيع الأوراق المالية بشكل حاد هذا العام حيث يخشى المستثمرون من ارتفاع تكاليف التمويل، مما يعني أن الإصدارات الجديدة قد جفت تماماً.
ومع عدم سهولة الوصول إلى أسواق السندات، تحتاج شركات العقارات إلى مصادر تمويل بديلة، لكن من المرجح أن تكون البنوك حذرة بعد قضاء عقد من الزمان في تقليل تعرضها للانكشاف بعد الانهيار الأخير.