كان بالسودان جالية يهودية بها حوالي 800 يهودي منذ ما قبل الثورة المهدية.
لكن حملات الأسلمة القسرية التي قامت بها المهدية جعلت بعضهم يهرب من السودان؛ وبقي بعضهم وزاد عددهم مرة أخرى حتى قيام إسرائيل.
وبعد ذلك عملت الوكالة اليهودية على تهجير بعضهم إلى إسرائيل.
لكن عمنا إبراهيم مراد اليهودي السوداني بقي بالسودان؛ ولم يهاجر إلى سويسرا إلاّ بعد مصادرة الشيوعيين، الذين جاؤوا مع نميري في مايو 1969، مصانعه في سعيهم لتطبيق الشيوعية في السودان.
وكان إبراهيم مراد رجل أعمال ناجحاً وامتدت صلاته القوية بالسيد عبد الرحمن المهدي، وكان يصدِّر له القطن؛ والسيد علي الميرغني.
وحين كنت دبلوماسياً بجنيف (1999) كان إبراهيم مراد يزورنا بالسفارة حاملاً معه هديته التي دائماً ما تكون شكولاتة. ويحرص على أن يحمل معه جنسيته السودانية، تلك الخضراء القديمة التي كان مرسوماً عليها وحيد القرن، شعار السودان الأول بعد استقلاله.
وفي كل مرة يخرج لي جنسيته ويسألني:
“عندك زي دي؟” ولما أجيبه بالنفي يُردف: “والله، أنا سوداني أكثر منك”.. كان يقولها بجدية، وينطوي على حنين كبير للسودان.
وقال لي أكثر من مرة: إنه يتمنى أن يعود ليعيش بالسودان وأن يموت فيه؛ ويقول: إن أبناءه لا يوافقونه خشيةً على صحته وهو في العقد الثامن من عمره.
روى لي أنه اقنع السيد علي الميرغني أن يتم ختان ابنيه محمد عثمان وأحمد بمنزله الهادئ، ومن ثم سيوفر لهما جواً أفضل من منزل السيد على المزدحم بالزوار والمريدين.
وقال: إنه بالفعل جرى ختانهما بمنزله، ومكثوا فيه بضعة شهور!!!
وحدَّثني بما فعله الذين وضعهم الشيوعيون قيّمين على مصانعه من نهب وخراب، لدرجة أنه أنكرها وعافها وتركها لهم، وذلك بعد تراجع النميري عن قرارات المصادرة، ورجوعه للسودان ليرى ما آل إليه حالها.
وقد أورد ابن الحاخام ملكة – آخر حاخامات السودان – مؤلف كتاب Jacob’s Children in the Land of Mahdi (بنو إسرائيل ” أو يعقوب ” في أرض المهدي) أن أبناء مراد – ومنهم إبراهيم – كانوا فاعلين في الجالية اليهودية بالخرطوم. وكان إبراهيم من آخر اليهود هجرةً من السودان.
ومعلوم أن أول اتصال قام به سوداني بالموساد كان هو السيد الصديق المهدي عام 1954. وجرى اللقاء بلندن، ورتبه محمد أحمد عمر رئيس تحرير صحيفة (الناس) التابعة لحزب الأمة.
وأعقبه لقاء آخر لمحمد أحمد عمر بالموساد منفرداً في اسطنبول.. وكان الغرض من لقاء المهدي حاجته لثلاثة ملايين دولار؛ قال إنه يريدها للانتخابات!!! ليقوى حزبه ويسيطر على البرلمان للوقوف أمام مخططات المصريين التي يمثلها غريمه حزب الميرغني!!
وجدت ذلك في كتاب عنوانه: Every Spy a prince قبل أن يعترف به السيد الصادق لأحمد منصور.
كما أن المؤرخ السوداني الكبير بروفسر أبو شوك وثّقه.
لا شك أن اعترافات آڤي دختر Avi Dekhter مسؤول الشاباك، وهو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، كانت الأكثر صراحة عن التدخل الإسرائيلي في السودان.
وكشف آڤي دختر: عن قيام إسرائيل “بدور مؤثر وفعال” في الأوضاع في دارفور (وفي جنوب السودان) وذلك بمساندتها للسياسة الأمريكية في المنطقة وكشف خطةً للتدخل الصهيوني في دارفور منذ العام 2003 بواسطة رئيس الوزراء السابق شارون.
وكشف ديختر ، أن صانعي القرار في إسرائيل “كانوا قد وضعوا خطة للتدخل في دارفور عبر الذراع الأمريكية”.
وقال إن ” تدخلهم في دارفور حتمي وضروري حتى لا يجد السودان المناخ والوقت لتركيز جهوده باتجاه تعظيم قدراته لصالح القوة العربية”.
وأشار ديختر إلى أن السودان بمساحته الشاسعة وموارده المتعددة “كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية منافسة مثل مصر والسعودية والعراق لولا الأزمات الداخلية والبنيوية وصراعات الحروب الأهلية في الجنوب”.
وبيّن في الوقت ذاته أن رئيسة الوزراء الصهيونية “جولدا مائير” كشفت أن إسرائيل وعلى خلفية بُعدها الجغرافي عن العراق والسودان “مضطرة لاستخدام وسائل أخرى لتقويض الأوضاع من الداخل لوجود الفجوات والثغرات فـي البنية الاجتماعية والسكانية بالسودان”.
ومن المعلوم أن الموساد تدخل للسودان بجوازات أمريكية، ويتخذ بعض ضباطها من السفارة الأمريكية بالخرطوم مستقراً ومنطلقاً.
وكان بعضهم يتوسل للوصول عبر منظمات إنسانية.
وكان جهاز الأمن السوداني قد ألقى القبض على اليهودي ديفيد أمري (كوري الجنسية) ويحمل جواز سفر أمريكي بمعسكر “كلمة”، وكان يعمل لصالح (الوكالة اليهودية الأمريكية العالمية)؛ وكان يقدم محاضرات بأمريكا معادية للسودان ومشوهة لسمعته، يكذب فيها عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور.. وأقر لدى القبض عليه بأنه استقى معلوماته من (لجنة الإنقاذ الدولية) وهي منظمة يتم تمويلها بواسطة المعونة الأمريكية!!!
وكنا ذكرنا دعم إسرائيل لكل حركات التمرد بالجنوب.
وكان اللوبي اليهودي وراء كل حملات التشويه ضد السودان بما فيها اتهامات الإبادة الجماعية في دارفور التي بدأها من متحف الهولوكوست بواشنطن، ثم حملات Save Darfur Coalition وما إليها. بالطبع عاونهم عملاء من اليساريين السودانيين ونكرات من أمثال عمر قمر الدين.
وكانت إسرائيل أشد ضيقاً من تنامي القدرات العسكرية السودانية، لذا قصفت مجمع اليرموك للصناعات العسكرية.
وكان لا بد للسودان من فعل شيء يوجع إسرائيل، فهرّب مختلف أنواع الأسلحة للمقاومة الفلسطينية في غزة..
ودرّب عدداً من المهندسين الفلسطينيين على صنع الأسلحة.. وكان من بينهم المهندس التونسي المبدع محمد الزواري الذي درَّبه مهندسو التصنيع الحربي على تصنيع المسيَّرات. وقام بالفعل بتصنيع مسيَّرات لحماس سمَّتها باسمه وهي عاملة الآن تقصف في إسرائيل.
كنت مديراً للإدارة العربية 2014، ورافقت وزير الخارجية وقتها علي كرتي للقائه مع عمر سليمان. وتطرق النقاش للأوضاع في غزة؛ فقال عمر سليمان:
نحن نعرف كل الأنفاق على أرضنا، التي يهرب عبرها الفلسطينيون السلاح، لكننا نغض الطرف.
سعت إسرائيل بطرق شتى لتطبيع علاقتها بالسودان.
آخر تلك المحاولات هي ما ذكره لي الرئيس البشير وهي التي حمّلتها إسرائيل للرئيس التشادي إدريس دِبّي في 4 أبريل 2019 (قبل ستة أيام من سقوط حكمه) ولكن البشير كان وفياً لمبادئه فرفضها حتى بعد أن أثاروا عليه المظاهرات في آخر أيام حكمه، وما حمله الرفض من مخاطر على حكمه.
كان البشير مدركاً لتفاصيل المؤامرة على السودان، وقال: إن أهم عنصرين في أجندة الغرب وإسرائيل ضد السودان ووراء إسقاطه، هما:
(١) محو أي توجه إسلامي في السودان.
(٢) تدمير التصنيع الحربي.
وهذا ما حدث بالفعل.
وأعيد هنا ما كتبته من قبل، وهو أنه سيكون من السذاجة (وربما الغباء) الظن أن إسرائيل ستترك السودان وشأنه حتى لو أقام معها اتفاق سلام؛ فما حدث لليهود في أوروبا من اضطهاد خلال ألف عام، ثم ما أصابهم خلال الهولوكوست، ومن بعد عداؤهم مع العرب؛ جعلهم لا يثقون بأحد ولن يدخلوا في مجازفات ومخاطرة.
ومن أسفٍ أن البرهان وقع معها اتفاق إبراهيم؛ أسوة بحكام لم يكن دافعهم وطنياً، بل اعتقاد خاطئ أنها ستبقيهم على كراسيّهم؛ وما دروا إنها إنّما تَنْتَعِلُهم!!!
📍السفير عبد الله الأزرق