ضج ما يعرف بالمجتمع الدولي خلال الأيام الماضية رافعا صوته عاليا منددا بالإنقلاب الذي حدث في دولة النيجر إحدى دول غرب أفريقيا، والمجتمع الدولي في عمومه هو المستعمر السابق لدول أفريقيا الذي ما لبس أن أستعمرها مرة أخرى بطرق غير تقليدية. وفرنسا أحدى رموز المجتمع الدولي،استعمرت النيجر حيث كانت تلك البلاد ملكية استعمارية فرنسية لمعظم أراضيها، بالإضافة إلى أجزاء من مالي وبوركينا فاسو وتشاد.
وأصبحت تسمى مستعمرة النيجر من 1922 إلى 1960. بعد الإستقلال لم تعرف النيجر الإنقلابات إلا عبر التدخل الفرنسي في شأنها الداخلي؛ ويعزى ذلك لامتعاض النيجر من الاستنزاف الفرنسي لثروات البلاد، وحينذاك طالب رئيس النيجر الأسبق حماني ديوري -عقب قرار فرنسا الاعتماد على الطاقة النووية على خلفية أزمة النفط العالمية عام 1973- بزيادة حصة بلاده من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية. وحاول ديوري وهو في طريقه إلى حفل تأبين الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو، ترتيب لقاء مع رئيس الوزراء الفرنسي لاستئناف التفاوض بخصوص هذا الموضوع، بيد أن فرنسا ردّت على ذلك المسعي بتدبير أول انقلاب عسكري في البلاد في منتصف أبريل 1974، قاده الجنرال سيني كونتشي المقرب من الفرنسيين قبل 72 ساعة فقط من موعد ذلك الاجتماع. ومنذ ذلك التاريخ الذي شهد أول انقلاب عسكري في البلاد، سيطر الفرنسيون على اليورانيوم في النيجر التي هي من بين أكبر منتجي هذا المعدن في العالم الذي يدر لها 96% من النقد الأجنبي. وسخّرت فرنسا المناجم لصالح المفاعلات النووية، لدرجة أن يورانيوم النيجر كان في وقت من الأوقات مسؤولًا عن إضاءة ثلث الأنوار في فرنسا، فيما ظلت النيجر تعيش في ظلام دامس واقتصاد هشّ جعلها واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض، إذ يعيش أكثر من 60% من سكانها البالغ عددهم 17 مليون نسمة على أقل من دولار واحد في اليوم. إن أكثر من نصف قرن من التنقيب الفرنسي عن معدن اليورانيوم الذي يُطلق عليه كذلك “الكعكة الصفراء” للونه الأصفر، أصبحت فرنسا بفضله في مصافّ أقوى اقتصادات العالم وأحد أكبر مصدري الطاقة الكهربائية، لكن وفقا لموقع فرنسي فإنّ نشاط التنقيب ترك النيجر غارقةً في 20 مليون طن من النفايات المشعّة دون معالجة. اليوم تعصف بقارة أفريقيا مشاكل عظيمة تقعُد بها عن أي محاولات لاستشراف المستقبل، وتُمسك بأجنحتها مهما حاولت التحليق في آفاق التنمية، واللحاق بركب التقدم. والسبب الاستعمار التقليدي قديما والاستعمار الحديث بأدوات مبتكرة حاليا، وتتنوع مُشكلات القارة لتشمل الصراعات السياسية والعرقية، والنظرة الغربية الاستعلائية، واللجوء، والديون، وتاريخيا الرّق، وعلى الرغم من أن جزءً من هذه المشاكل يرجع لعوامل طبيعية فرضتها ظروف القارة الجغرافية والمناخية، إلا أن باقي المشاكل تكاد تكون إفرازاً لمشكلة أشمل عانت منها القارة قرونا عدة؛ وهي الاستعمار الذي أذاق أبناءها الويلات والثبور، مخلفا الصراعات السياسية والعرقية الناتجة مباشرة عن التقسيم السياسي.
لقد كان التوسّع في إفريقيا، والسيطرة على مناطق التحكم الاستراتيجي، والمعابر المائية القابضة، على طرق التجارة الدولية أحد الأهداف الاستعمارية في إفريقيا، وبرزت في الأفق الإمبراطوريات البريطانية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وكانت تتصارع بعنف وتتسابق بنشاط لاقتسام مناطق النفوذ، وتوزيع الإرث وخاصة ما كان يُطلق عليه وقتها “أرض بلا صاحب”، وما أكثر تلك الأراضي التي وضعها الاستعمار الأوروبي تحت هذا الشعار خاصة في إفريقيا.
وجاء مؤتمر برلين 1884- 1885م ليضع خريطة تقسيم إفريقيا، وليقنن السباق الاستعماري الأوروبي، ويحدّد لكل دولة من الدول حدود مستعمراتها الجديدة. وشمل الظلم الذي وقع على شعوب القارة التخطيط المصطنع لحدود دولها أثناء مرحلة التنافس الاستعماري على القارة مما أدى إلى وجود التعدد العرقي داخل الدولة الواحدة بعد الاستقلال نظراً لأن تخطيط هذه الحدود لم يأخذ في اعتباره الحدود العرقية، ونتيجة لذلك فإن أية محاولة للتوحيد العرقي للمجموعات العرقية المتماثلة عبر الحدود السياسية القائمة أصبح يسبب العديد من الصراعات الداخلية، كما أنه أدى ولا يزال إلى الصراع بين الدول الإفريقية، وإضافة لما تقدم فإن التخطيط الحديث لحدود بعض الدول قد عقّد كثيرا من مهمة تعزيز الوحدة الوطنية والاندماج الوطني.
وكان التغيير الجذري الهائل في إفريقيا عقب فرض الاستعمار لقيمه الثقافية ومبادئه السياسية، وقد طال هذا التغيير منظور السلطة وطبيعتها في المؤسسة السياسية الإفريقية، حين حقنها بقيم فضفاضة في جوانبها النظرية خاوية في أبعادها التطبيقية كما أنها لم تكن تتناسب مع البنية الثقافية الإفريقية نظراً لتعقيد آليات تشغيلها. فقد رفض الاستعمار استعلاءً الاعتراف بوجود الممارسات الديمقراطية في الحياة السياسية التقليدية التي ربطها تلقائيا بالتخلف والبدائية، والاستقراطية، والديكتاتورية في الحكم، كما لم يمارس الاستعمار الديمقراطية المُدعاة في تعامله مع المجتمعات الإفريقية، وإن ادعى نشر قيمها والسعي لتوطيدها.
لاحقا جاء إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية ومن ثم الاتحاد الإفريقي في محاولة من دول القارة لتطوير أهدافها الوطنية المتمثلة في التنمية الشاملة. ولاحقا كان الهدف تطوير المنظمة إلى اتحاد إقامة ولايات مُتحدة إفريقية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، والسماح بتنقل الجماعات العرقية عبر الحدود والتدخل لفض أي نزاع بمجرد أن يطلب البرلمان الأفريقي الموسع ذلك. غير أنه أُتفق في النهاية على قيام اتحاد إفريقي على غرار الاتحاد الأوروبي له من الأجهزة والمؤسسات تمكنه من تنفيذ الأهداف الموكلة إليه. لكنه رغم تلك الأطر المؤسسية النظرية، ظل بئرا معطلة وقصرا مشيدا بسبب ارتباط قادة دوله بالقوى الخارجية.
فالقادة الافارقة وكذا موظفي الاتحاد الافريقي لا يتمتعون بالحد الادنى للثقة ولا تتعدى أدوار معظمهم دور الوكالة المخلصة للاستعمار الجديد. وفي موضوع السودان – على سبيل المثال – كالوا بمكيالين ولم يدينوا انقلاب مليشيا الدعم السريع وعجزوا عن ادانة جرائمها وفظائعها التي سارت بها الرياح في كل ارجاء العالم.النيجر.. لعنة “الكعكة الصفراء”