وكالات : كواليس
“فارس واحد قض مضاجع الفرنسيين، وكبدهم من الخسائر والأرواح والسمعة ما لم تكبدهم قبائل بأسرها، ومع ذلك كان يعيش متدثرا بجلده، لا أحد يلقي له بالا ولا ينتبه له إن غاب أو حضر”.
بهذه الجملة، أنهى الكاتب الموريتاني أحمد ولد سيدي صفحة التوطئة لروايته “الذيب”، الفائزة بالمرتبة الثانية في جائزة الشارقة هذا العام.
عندما تنهي تلك الصفحة التي يمكنك وصفها بالمقدمة، ستمرّ ببالك سير الملاحم الشعبية التي تربينا عليها في مختلف الدول العربية من “الزير سالم” إلى السيرة الهلالية، تلك التي كانت تلعب على أوتار المشكلات الاجتماعية خاصة الطبقية منها، وتضفي عليها من خيال الراوي إلى الأحداث الحقيقة لتجعل البطل في مساحة ربما خارقة، لكنها تترك أثرًا.
وكما جاء عنترة ابن شداد على رأس حكايات الحب المنسوجة على أنقاض العبودية، جاءت “الذيب” كاشفة لكثير من أسرار حياة الموريتانيين وحصونها الراسخة في الوجدان.
توّج الروائي الموريتاني الدكتور أحمد سيدي بجائزة الشارقة للإبداع العربي عن روايته “الذيب”، و تجري أحداث الرواية في مطلع القرن العشرين في موريتانيا، وتعالج القضية الاجتماعية، وتعطي صورة عن حياة المجتمع الموريتاني في تلك الحقبة. pic.twitter.com/M4xUOg7rLV
— الجزيرة ثقافة (@AJA_culture) April 29, 2023
نقد لاذع
“الخايب”، ذلك الشاب الذي اختاره الكاتب بطلا لروايته الأولى، كان من هؤلاء الرجال الذين جهلهم مستواهم الاجتماعي وسط عالمهم، فهو من فئة “لمعلمين”، وهي تلك المعروفة بعملها في المهن اليدوية كالنجارة والحدادة وغيرها، إذ لا يحق لمن في هذه المهنة الدخول لعوالم “البيظان” من العرب أهل الحرب والنزال أو الزوايا حماة العلم وحملة الكتاب، كما أنها فئات أعلى حسب التراتبية المجتمعية في بلاد شنقيط.
قدر “الخايب” ألقى به في طريق آخر، نتعرف عليه عبر صفحات الرواية التي تمتد لما يقترب من المئتي صفحة، عابرة بنا الأزمنة إلى عشرينيات القرن الماضي مع وجود الاحتلال الفرنسي هناك، مارا بين الأفكار التي توارثها المجتمع وواقع يتمسك بسطوة تلك الأفكار.
وكما يحدث مع الأشخاص الرئيسيين في قصص الملاحم، نجد الكاتب جعل من “الذيب” خارقا في تصرفاته غير المتوقعة ممن هم في ظروفه، محبوبا ومختلفا؛ وإن كنا في حاجة إلى مزيد من الصفحات التي تحكي عن مراحل تطور شخصية “الخايب” إلى أن تصل إلى “الذيب”، فقد جاءت الكتابة أقرب إلى الطريقة المختصرة، على عكس تلك التي تأتي في أدب الملاحم.
كما أن الكاتب كشف طبيعة المجتمع الذي يخشى الاعتراف بالحب وإعلانه، خاصة إذا كانت هناك عراقيل مجتمعية. تنتهي القصة من دون أن تعرف محبوبته مقدار العشق الذي كان يكنّه البطل لها؛ بل لم يكشفه ولو على سبيل الخطأ، كما أنه استخدم طريقة التشويق السردي مع إعلان النهاية مبكرًا، فمنذ صفحة البداية نعرف مصير البطل، وهو “تكنيك” صعب جدا في الكتابة، فكيف تخبر قارئك بالنهاية وتحافظ على انتباهه على مدار السرد؟!
أهنئ أخي الفتى أحمد ولد سيدي بحصوله على جائزة الشارقة للإبداع عن روايته #الذيب.
مبروك، عزيزي @a7medsidi
ومزيدا من التألق والإبداع. pic.twitter.com/UB0bRC68MH— أحمد فال الدين (@ahmeddine) April 28, 2023
كل الاعتزاز بوصول قلم الصديق أحمد سيدي للقمة.
جائزة أخرى تضاف إلى رف جوائز #الرواية الموريتانية وتؤكد أن السرد الموريتاني يتجه بثقة إلى حجز موقعه في خريطة الإبداع العربي
مبارك للصديق أحمد تتويجه بجائزة #الشارقة للإبداع العربي عن روايته #الذيب.
وننتظر بشوق وصولها إلى المكتبات pic.twitter.com/XrguOk7Uwt— أحمد ولد إسَلْمُ (@A7medisselmou) April 28, 2023
حضور المرأة القوي
المرأة الموريتانية تتجلى في الرواية بقوتها في مواقف عدة، وأكثرها وضوحا “أم العيل” تلك التي تحدت الواقع ورسمت لنفسها خطًا ثوريا ضد أفكار المجتمع المحدودة، فاختارت أن تفيض بكأس علمها على الإماء وغيرهم ممن كان محرما عليهم العلم، حسب عادات المجتمع. ليس هذا فقط؛ بل إنها تخطت خوف الرجال وقت الحروب، لتفتي بوجوب قتال المحتل وحرمة مهادنته، فتظهر في قصتها عمق قوة المرأة ودورها التاريخي.
لم تكن العالمة وحدها؛ بل ابنة شيخ القبيلة التي شعر والدها برفضها للزواج من ابن عمها ولو كان على سبيل التمثيل، فجاء تقديره لرغبتها والحرص على إخبارها بانتهاء القصة قريبا من صديق أبيها عندما بان عليها الحزن.
وزوجة “لعبار” الجميلة التي تحتمي بسطوتها في قلب زوجها، رغم عدم قدرتها على الإنجاب، والإعلاء من قدرها طوال الوقت. وهذه هي نفس الأفكار التي تحكم المجتمع الذي استمد تقديره للمرأة من ارتباطه تاريخيا بمجتمع الصناهجة.
السرد الخطر
يأخذنا ولد سيدي في جولة تاريخية مكثفة وخطيرة في آن، ومن يعرف طبيعة بلده يدرك خطورة المضي في هذا الطريق، والأهم تقديمه لنقد لاذع لفكرة الطبقية وهي الراسخة في وجودها في العقل الجمعي الشعبي، وكأنه يحاول نبش التاريخ للتأثير عبر الزمن.
منذ اللحظة الأولى تغرق في الشخصيات التي تختلف أسماؤها ووقعها على الأذن المشرقية، فلكل اسم معنى مرتبط بدوره في الحياة، وهي طريقة موريتانية في إطلاق الصفات كألقاب وأسماء.
مازجة بين الحب والحرب، حيث يضع الأول أوزاره ويتوارى خلف كل مخاوف البوح الكامنة في فخاخ التقييم والطبقات المختلفة، جاءت الرواية مقدمة المنحى النقدي الطبقي، بعيدا عن الغوص في الحاضر والعزف على أوتار العادات الغريبة في المجتمع كطقوس الزواج والطلاق، وغيرها من المشهور في غيرها من الأعمال، ليرسم الكاتب لنفسه خطًا يخصه وحده.
فخاخ الكتابة
بالنظر إلى كون “الذيب” عمله الروائي الأول بعد إصداره أعمالا شعرية سابقة، فربما وقع ولد سيدي في بعض فخاخ الكتابة التي غلبت عليها الطريقة المباشرة، خاصة عندما يتحدث عن أمور يومية ولحظية في مجتمعه، كطقوس إعداد “الآتاي” المشروب الموريتاني الذي يستلزم جماعة وحكايات وجمرا، وتفسير اختلاف تقييم الطبقات التي هي الفكرة الأساسية للرواية.
فالقارئ كان بحاجة إلى مزيد من الشرح والتفصيل للأفكار والعادات المجتمعية التي مرت في الرواية بشكل عابر، من دون التوسع فيها، وإن ظهر الشرح بشكل جيد في بعض المواطن كتفسيره لمعنى “التبراع“، ذلك الفن المقصور على النساء في قول الشعر فيمن تحب من دون كشف هويتها.
بين المحضرة والحروب وحكايات الكر والفر مع العدو، يستعيد الكاتب رواية الملاحم، فيما يسرد واقعا مجتمعيا ربما يكون مجهولا لكثيرين، فقد لا نعلم من موريتانيا غير ما تشتهر به من حيث كونها “بلد المليون شاعر”؛ لكن بعد الانتهاء من تصفح “الذيب” ستدرك كثيرا من تاريخ هذه الدولة الواقعة في غرب القارة الأفريقية مغردة وحدها على أوتارها الخاصة والشديدة الاختلاف عمن يجاورها من دول، عبر القراءة ستستمتع برواية فصيحة وممتعة وثورية في آن واحد.