يحى محمد عثمان هاشم يكتب: ‏معركة الكرامة بالخرطوم … الإحتراف والتفرد في حرب المدن



أنماط المعارك التي تأخذ صفة حرب المدن دائما ما يسعى القادة العسكريون إلى تجنبها قدر المستطاع نظرا للافتراضات القائمة على أن هذا النوع من الحروب تكاليفه الانسانية باهظة قياسا على ضيق المساحات المتاحة للتحرك العسكري مع جغرافيا مكتظة بالمدنيين ، ويحضرني هنا حديث الجنرال مايك ميلي رئيس هيئة الاركان الامريكية في محاضرة ملقاة في أكاديمية ويست بوينت العسكرية وهو يشرح طبيعة إتخاذ القرار العسكري فيما يتصل بمهاجمة العدو وكان ضاربا للمثل بين قرار إلقاء قنبلة في منطقة سهول مفتوحة مقارنة مع صعوبة إتخاذ مثل هذا القرار في منطقة مأهولة بالسكان وهو ما سيلقي بتداعيات هائلة على كل شئ من أنماط التمويه والاسلحة إلى تصميم المركبات والخدمات اللوجستية.
المعركة التي واجهها الجيش السوداني في الفترة الماضية بثبات وتجلد وصبر راسخ ، لا أبالغ في الوصف إن قلت أنها الأولى من نوعها في المنطقة والاقليم إذ لأول مرة في تاريخ الجيوش يتم هذا النوع من الحروب من داخل المنظومة الأمنية والعسكرية المؤسسة بالدستور والقانون والمجازة بجهاز التشريع في الدولة ، وتدور رحى هذه المعارك داخل العاصمة بمدنها الثلاث ونقطة انطلاقها المواقع الاستراتيجية التي كلفت بحمايتها وحراستها ، لدرجة تمترست فيها دفاعات القيادة العامة للقوات المسلحة من المسافة صفر لتصد هجوما خاطفا معداً بعناية و بجيش عرمرم ضخم العدة والعتاد .
اذا أمعنا النظر في صفحات المعارك التي حدثت في دول مجاورة كنماذج و أمثلة قائمة للمقارنة والمدارسة، ففي اثيوبيا مثلاً في العام 1991 عندما استطاعت قوات الجبهة الديموقراطية الثورية الشعبية الاثيوبية أن تدخل العاصمة بعد هزيمة قوات منقستو هايلي مريام في معارك سابقة لمعركة أديس والتي لم يجد فيها مليس زيناوي عناءاً كبيراً في السيطرة عليها وإنهاء حقبة نظام الديرك ( الحكومة العسكرية المؤقتة لاثيوبيا الإشتراكية) بقيادة منغستو هايلي مريام .
ويترائى أمام اعيننا نموذج يوري موسفيني وقواته الشعبية للمقاومة ضد ميلتون أوبوتي في الفترة من 1981 حتى العام 1986 ،، خاضت فيها حرب عصابات ضد الجيش الحكومي حينها إلى أن توج جهده بالسيطرة على مقاليد الحكم في العاصمة كمبالا وممسكا بتلابيب الحكم والسلطة حتى اللحظة ،، ونموذج كاغامي في رواندا ليس ببعيد عن رفيق دربه وكفاحه موسيفيني والذي عمل على مكافئة رفيقه بتعيينه رئيسا للاستخبارات العسكرية اليوغندية ثم دعمه في تأسيس الجبهة الوطنية الراوندية التي اتبعت ذات نهج المقاتلة والمدافعة حتى وصل إلى سدة الحكم في كيغالي …
حتى في حالة القوة الأمريكية الباطشة والتي غزت العراق في العام 2003 ودخلت إلى بغداد بعد إسبوعين او ثلاث تقريبا من بدء الضربات الجوية الخاطفة والتي عنونها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في عهد بوش الإبن بعقيدة الصدمة ، إلا أن التحدي الأكبر الذي واجه جيش العم سام بقيادة الجنرال المخضرم تومي فرانكس هو مواجهة المقاومة في مدينة الفلوجة في محافظة الانبار والتي استغرقت قرابة الشهر بالتمام والكمال مقاومة شرسة خاضها أبناء الرافدين ضد القوات الأمريكية ، هذه نماذج للقياس والمعايرة لما عرف إصطلاحاً بحرب المدن ولكنها معايرة ومقايسة لا تنطبق باطلاقها على ما حدث في السودان كما ذكرنا من قبل باعتبار قوة التمرد القائمة كانت جزءاً أصيلاً من المؤسسات ومن المنظومة القائمة على حفظ الأمن القومي للدولة..
يمكن القول بأن القوات المسلحة خاضت ببسالة واقتدار معارك الكرامة دون أن تكون لها هناك ذخيرة عملياتية وتكتيكية وافرة من هذا النوع من الحروب .. إذ هي الأولى في تاريخ جيشنا منذ خوضه غمار المدافعة عن الدولة منذ تولد حالات المطالب السياسية بقوة السلاح في أغسطس من العام 1955..
هذه الحرب الاولى من نوعها في المنطقة من حيث النمذجة العسكرية القائمة عليها إذا واجهت قوات متمردة مقاربة للجيش من حيث العدة بمقدار مائة ألف جندي وعتاد وتسليح متنوع من الخفيف إلى الثقيل وتشوين ضخم من الذخائر والمؤن تكفي لفترات زمنية ليست بالقصيرة هذا علاوة على غطاء وشرعنة للفعل الآثم بصورة مخلة ومخزية من دول في الإقليم والدوائر الدولية والتي بدورها آمنت غطاء فاضحاً للتمرد في المنظمات الدولية كالامم المتحدة والاتحاد الافريقي و جماعات الحقوق صاحبة الصيحة المثيرة للوصب والصداع إذا ما انتهك حق حيوان أليف في الحياة دعك من بشر كامل الهيئة والاوصاف والحقوق ،أو هكذا حدثونا ،، تعاملت القوات المسلحة مع كل ذلك بتأني وتؤده وضبط للفعل العسكري الميداني وإمتصاص لقوة العدو البشرية والمادية مع تفعيل أقصى لسلاح الطيران واحتفاظ بكامل عدة وعتاد الأسلحة الرئيسية في الجيش …
لا شطط منا ولا اطناب أو إفراط إن قلنا بأن سلاح الجو قد أظهر احترافية ودقة عالية في التصويب كانت مثار تلاحظ ومتابعة للمراقبين من أهل الإختصاص، فلنا أن ننظر إلى حجم الخسائر في أرواح المدنيين والاضرار في المقار السكنية مقارنة مع حجم الطلعات الجوية وكثافة ضرباتها وبقياس امتداد مساحة العاصمة وكثافة سكانها التي قاربت حاجز ال 15 مليون نسمة هذا يؤشر على احترافية أحب الجيش أن يظهرها بيان بالعمل لا لعلعة ومكاء وتصدية في فضاءات الهزل السياسي ، ومن واجب المقايسة والمقارنة بالتجربة الحية القائمة في شرق آوروبا ، أحداث مدينة ماريوبل التي اجتاحها الجيش الروسي في خضم صراعه مع الغرب في الأرض الأوكرانية ، إذ قام الجيش الروسي بحصارها لزمن متطاول مع طلعات جوية ضاربة أضرت بأكثر من 1300 مبنى سكني شاهق الارتفاع وتعاني 40 % من المنازل بالمدينة من الدمار أو التضرر بسبب الحرب ولا يمكن إعادة تأهيل معظم المباني وفقا لما قاله رئيس بلدية ماريوبل فاديم بويشينكو ، علاوة على تحرك عسكري بري خاض معارك ضارية في أزقة المدينة أجبر قرابة ال75% من السكان على النزوح والهجرة ، حالة الحرب في ماريوبل أبلغ واصف لأثارها وزير خارجية أوكرانيا بأن المدينة لم تعد موجودة ، هذه للمقاربة فقط لا أكثر ..
كما ذكرت في بادئة حديثي أن النماذج المتداولة مما يوصف بحرب المدن لا تماثل ما واجهته القوات المسلحة السودانية جراء حربها ضد التمرد فهي سابقة توضع في إرشيف الحروب العسكرية والمعارك الحربية للبحث والدراسة والإطلاع، حروبا خلقت خبرة ضخمة لا يستهان بها لقواتنا المسلحة ومعرفة ودراية بمطلوباتها وخططها وتكتيكاتها المعتمدة التي عمد الجيش على وضعها مرات ومرات أخفق في بعضها ونجح في الغالب منها.
هذه الفرادة في التجربة والتمرس ستكون محجاً لأهل الاختصاص في مجالات الحرب والعراك المسلح لدراسة تجربة فريدة من نوعها ، فاذا كانت حرب المدن في وصفها هي ساحة إعتراك معقدة ما إعتادت الجيوش المنظمة على خوضها بإحتراف عال فإن ما حدث في الخرطوم يسطر فصلا جديدا من نماذج حرب المدن بإعتباره النموذج الاكثر تعقيدا في فصولها تتطلب مهنية متجذرة وإحترافية لها عمق أخذ في التراكم عبر تاريخ طويل عتيد…
معركة الكرامة التي يخوضها البواسل من أبناء الجيش والقوات النظامية ستكون سفراً خالداً وصفحةً مضيئةً في تاريخنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *