وكالات : كواليس
في الحوار بين الحضارات والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين، يبرز اسم جون إسبوسيتو كأحد رواد دراسات الإسلام المعاصر، فمنذ نشر كتابه “الإسلام والسياسة” عام 1984، ثم “الإسلام: الصراط المستقيم” عام 1988 وانتشارهما بشكل كبير، أصبح في موقع الصدارة في الحوار الديني والتبادل الثقافي.
وعزز إسبوسيتو مكانته المرموقة تلك بترأسه تحرير موسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي الحديث، وتاريخ أكسفورد للإسلام، ومعجم أكسفورد للإسلام، وموسوعة أكسفورد للإسلام، ومجلدات العالم الستة، وغيرها من الأعمال الفكرية والأكاديمية التي تجاوزت 50 كتابا أكثرها عن الدين والإسلام وكراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا).
ويعمل البروفيسور جون إسبوسيتو (John Esposito) أستاذ الدين والشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورجتاون، وهو مدير مؤسس لمركز الأمير الوليد للتفاهم بين المسلمين والمسيحيين في كلية والش للخدمة الخارجية، وعمل رئيسا سابقا للأكاديمية الأميركية للدين ورابطة دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية، والمستشار السابق لوزارة الخارجية الأميركية.
والتقت الجزيرة الإنجليزية في الحلقة الأولى من برنامجها الجديد “سنتر ستيج” (Center Stage) بالأكاديمي الأميركي لتناقش تأثير الإسلام على الولايات المتحدة، وحاورته سُرَيّا سلام مديرة موقع الجزيرة الإنجليزية، في مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تتراوح بين الأسباب الكامنة وراء اهتمامه وشغفه بالإسلام، ودوره في تقديم المشورة للرئيس الأميركي جو بايدن عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ، والأصول الإسلامية لبعض التقاليد الأكثر شيوعًا في أوروبا والولايات المتحدة، وظاهرة “عولمة الإسلاموفوبيا”، فإلى الحوار:
-
سررت برؤيتك مجددا.
شكرا لك.. أنا سعيد بوجودي هنا.
-
لديك خبرة طويلة، أكثر من 40 سنة.
يضحك.. نعم، في الواقع قرابة 50 سنة، لكن لا أريد أن أناقش ذلك لأنه سيكشف عن عمري.
-
كرست مسيرتك المهنية لتعزيز فهم الإسلام والمسلمين، وأنت متحمس جدا حيال ذلك. لماذا كرست كل هذه السنوات لهذا العمل؟
كان هذا هو السؤال الذي طرحته عندما كنت في كلية الدراسات العليا. مدير القسم قال إن عليَّ أخذ مساق دراسي عن الإسلام، وتساءلت لماذا؟! كنت أدرس الدكتوراه في مجال اللاهوت الكاثوليكي، لكني بعد ذلك أصبحت مفتونا بالهندوسية، وكنت سأحضر الدكتوراه فيها.
ثم طلب مني رئيس القسم ثلاث مرات أن أدرس الإسلام، وكنت أستغرب ذلك، لأنني لم يكن لدي اهتمام بحثي بالإسلام. وحينها شاهدت فيلمًا بعنوان “نزوح” (Exodus)، وكان كاتبه مؤلفا مشهورًا، واعتقدت أنه كان مؤرخا، وبناء على هذا الفيلم فكرت في أخذ دورة واحدة في الدراسات الإسلامية.
كنت في دير مسيحي لعدة سنوات. لم يتم ترسيمي كاهنا، لكنني قضيت ما بين سن 14 و24 عاما في رهبنة الكبوشية الفرنسيسكانية (رهبنة ضمن التقليد الكاثوليكي الإيطالي المستند لروحانية القديس فرانسيس)، وكنت أعرف التقاليد اليهودية والمسيحية، لكنني فجأة وجدت نفسي في مساق دراسي يدرس الإسلام دون مقدمات. في الولايات المتحدة، كانت مساقات دراسة الإسلام توضع في نفس تصنيف مساقات الهندوسية والبوذية، أي أنه لديك دراسات يهودية مسيحية، ودراسات عن الديانات الأخرى (الهندوسية والبوذية وخلافها).
وفجأة توقفت وقلت: انتظر دقيقة، هذا دين يعترف بالوحي ويعترف بأنبياء العهد القديم، ويعترف بنبوة المسيح عيسى، ليس كابن الله، بل كنبي مرسل، وهو دين يبجل السيدة مريم بل فيه سورة كاملة باسمها، حتى أن مريم تظهر في القرآن أكثر بكثير مما تظهر في العهد الجديد.
ثم نظرت إلى التاريخ، وقلت أعتقد -أكاديميا على الأقل- أننا ننظر إلى تقليد يهودي مسيحي إسلامي، ومن هناك انطلقت.
لم تكن هناك فرص عمل في هذا المجال، لذلك زملائي كانوا يقولون لي حرفيا: لماذا تذهب إلى مجال التعويذة هذا؟! وقال آخرون إنك لن تحصل على وظيفة أبدا، لكن تم تعييني في وظيفة لتدريس أديان العالم (بشكل عام). لم أكد أدرس الإسلام حتى جاءت الثورة الإيرانية (1989)، ولهذا أقول إنني مدين بمهنتي لآية الله الخميني والثورة الإيرانية، أعتقد أن هذا هو المفتاح الذي أتى منه شغفي المهني.
قبل صموئيل هنتنغتون، تحدث إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام” (1981) عن شيء ما يحدث في أميركا يتعلق بالإسلام كشعور سلبي، ثم انتهى إلى القول “هذا ليس ما عليه الإسلام حقا”، هذه فقط هي طريقة تأطيره وتصويره، وهذا قد يؤدي إلى “صدام حضارات”.
كان المسلمون في أجزاء مختلفة من العالم ينظر إليهم فقط على أنهم مصريون أو لبنانيون (مثلا)، وكانوا غير مرئيين كثيرا في الولايات المتحدة، خاصة مع عدد قليل جدا من المساجد، ورغم ذلك، كانت هناك فكرة جاهزة مفادها أن هذه الصورة النمطية السلبية هي حقيقة ما يبدو عليهم دينهم، كان التلفزيون يُظهِر الناس كل يوم وهم يصرخون “الموت لأميركا”.
تحدثت أيضًا عن نقطة التحول فيما يتعلق بفكرة صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون (مفكر وأكاديمي أميركي)، لقد أرسى ذلك أيضا الأساس لتأطير الإسلام كتهديد حقيقي للغرب.
تعرفون (المفكر الفلسطيني الأميركي) إدوارد سعيد، الذي ظهر بعد الثورة الإيرانية مباشرة، لكن معظم الناس لم يلاحظوه حينها.
في كتاب سماه “تغطية الإسلام“، تحدث سعيد عام 1981 عن شيء ما يحدث في أميركا يتعلق بالإسلام كشعور سلبي، ثم انتهى إلى القول “هذا ليس ما عليه الإسلام حقا”، هذه فقط هي طريقة تأطيره وتصويره، وهذا قد يؤدي إلى “صدام حضارات”.
بعد ذلك، في عام 1993، نشر هنتنغتون مقالا بعنوان “صراع الحضارات”، والآن يعزو الجميع هذه الفكرة إلى هنتنغتون، ويرون أنه من توصل إليها.
-
قرأت مؤخرا معلومة مثيرة مفادها أن ثوب التخرج والقبعة تعود جذورها للجامعات الإسلامية في القرن التاسع، حين كانت نخب أوروبا تدرس في هذه الجامعات، وعندما يعودون إلى ديارهم كانوا يرتدون الثوب والغطاء المسطح الذي يرمز إلى المصحف باعتباره أعلى شكل من أشكال المعرفة، وحتى الخيط المتدلي منها يمثل الإشارة المرجعية في المصحف. أقصد أن التراث الفكري الإسلامي أثر فعلا على شيء شائع ما زال الطلاب يمارسونه عند تخرجهم. ماذا يقول ذلك عن تأثير الإسلام على الحضارة الغربية والفكر العالمي؟
نموذج الجامعات ملهم من نواح كثيرة، حيث كانت أوائل الجامعات في العالم الإسلامي تتضمن سكنا للطلاب، وقد قال أحد علماء الإسلام البارزين: خلال عصور الظلام، إذا كنت فوق كوكب آخر ونظرت إلى أسفل، فستجد الغرب غير مرئي، والعالم الإسلامي هو البارز. لقد تألقت في تلك الحقبة مجالات الفلسفة والطب والجبر، وغيرها، ثم تم نقل ذلك إلى الغرب.
وعلى سبيل المثال، درست اللاهوت الكاثوليكي في العديد من الأماكن، لكن قليلا جدا من تحدث عن حقيقة أن توماس الإكويني، الذي اعتيد أن يُنظر إليه على أنه لاهوتي كاثوليكي عظيم، تأثر معلمه بما جاء في العلوم الفلسفية التي انتقلت إلى الغرب، وهو نفس ما حدث في مجالات الطب والعلوم والتكنولوجيا.
-
أخبرني أحد زملائك في جورج تاون ذات مرة، أنه حتى توماس جيفرسون تأثر بجون لوك الذي تأثر بالفيلسوف المسلم ابن طفيل. فلماذا لا نتعلم هذه الأشياء في المدارس؟
هذا يتغير الآن. في الولايات المتحدة مثلا، لم تكن أمامك فرصة للاطلاع على كل ذلك ما لم تكن تدرس بجامعة دينية أو قسم ديني، لكن الآن تتوفر تلك المعرفة في أماكن مختلفة. لكن كيف يمكنك إدخالها إلى المدارس؟
الآن نوفر ونمول برنامجا تعليميا، وإذا ذهبت إلى موقعنا على الإنترنت، فستجدين امرأة تقدم هذه الدورات لمعلمي المدارس الثانوية، حتى يتمكنوا من جلب تلك المعرفة إلى الفصل الدراسي. لذلك، لم يعد من المستغرب أن يأتي طلاب قد اطلعوا على الإسلام والتاريخ الإسلامي في مقرراتهم الدراسية، ونال بعضهم فرصة دراسة اللغة العربية، ورغم أن ذلك لا يزال بعيدا عن التوجه السائد، فإنني لم أكن أراه في طلاب 1993-1996 عندما ذهبت لأول مرة إلى جامعة جورجتاون.
تاريخ وجود الإسلام في أميركا غير مرئي، وبعض العبيد المسلمين الذين جاؤوا إليها في وقت مبكر لم يكونوا قادرين على الحافظ على عقيدتهم
-
ماذا عن وجود الإسلام في أميركا وتأثير المسلمين السود على الثقافة الأميركية بشكل خاص. الإسلام ليس أمرا حدث في الستينيات مع الهجرة، بل هو قصة أميركية مثل قصة أميركا الأصلية، أليس كذلك؟
هذا الجزء من التاريخ الأميركي غالبا ما يكون “غير مرئي”. بشكل عام، كان الحديث عن المسلمين في أميركا دائما يتناول موضوعات مثل: متى جاء المسلمون من الخارج إلى أميركا.
على سبيل المثال، هناك العديد من العبيد الذين كانوا مسلمين عندما جاؤوا، وبمرور الوقت، لم يكن الكثيرون منهم قادرين على الحفاظ على عقيدتهم، وكانت هناك محاولة نوعا ما لتحويلهم عن الإسلام.
الكثير من هذا تم نسيانه، حتى أنه في السنوات الأخيرة فقط مع صعود جماعة “أمة الإسلام” ومحمد علي، مثالا، زاد الشعور بوجودهم المبكر، رغم أننا ما زلنا ننسى ذلك عند الحديث عن المسلمين في أميركا، وننسى أن ما يقرب من ثلث السكان في الولايات المتحدة أميركيون من أصل أفريقي أو سود.
-
وكان لهم تأثير عميق على الثقافة، مثل موسيقى البلوز والهيب هوب كما تعلم، هناك الكثير من النغمات الإسلامية أيضا. أعتقد أن من المهم أن تذكر ذلك أيضًا؟
لكنني سيئ في الهيب هوب، فقد حاولت ولم أنجح.
-
ماذا عن كيفية تأثير الجغرافيا السياسية على انتشار الإسلاموفوبيا؟ كما تعلم، لقد رأيت صعود الإسلاموفوبيا بطرق عديدة بعد 11 سبتمبر/أيلول والحرب على الإرهاب. ولكن حاليا تغيرت الكثير من الظروف الدولية مثل صعود الصين والانسحاب من أفغانستان.. ماذا تغير من الناحية الجيوسياسية؟
حسنا، ما نراه محبِطا حقا هو أنه بالرغم من أن نسب الأميركيين -وغيرهم في بلدان أخرى- ممن يفهمون الإسلام قد تحسنت، لكن لا أعتقد أن “عولمة الإسلاموفوبيا” قد انتهت، فالإسلاموفوبيا قد نمت في أوروبا في بلدان مثل النمسا والمملكة المتحدة وألمانيا، وهي تنمو في البلدان التي لا يوجد فيها الكثير من المسلمين.
كنت في مؤتمر، فوقف شخص ما من بولندا وقال: الخبر السار أننا ليس لدينا الكثير من المسلمين، والخبر السيئ هو أننا نعاني من الإسلاموفوبيا. وقال أستاذ أسترالي بارز الشيء نفسه.
كان أول منشور رئيسي في أميركا تعامل مع الإسلاموفوبيا عام 2010، عندما كان لدينا غلاف لمجلة التايم يقول: “هل أميركا معادية للإسلام؟”. ما أدركته منذ سنوات في الماضي هو أن هذا لم يكن بعيدا، الأمور لم تتحسن، كما تعلمون، بل كانت تزداد سوءا.
عندما تنظر إلى سياسات إدارة بايدن، من المحزن أن أقول إنه من وجهة نظري، لا فرق كبيرا في نهجها تجاه الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي
-
ماذا عن البيئة السياسية الأميركية؟ خلال سنوات ترامب، كانت هناك صناعة عداء للإسلام في البيت الأبيض. ما التحول في إدارة بايدن الآن؟ لأن من الواضح أن الخطاب قد تغير، لكن ماذا عن السياسات؟
عندما تنظرون إلى سياسات إدارة بايدن، للأسف، من المحزن أن أقول إنه -من وجهة نظري- لا فرق كبيرا فيما يتعلق بنهجها تجاه الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي، فقد سمت مسؤولا رفيعا في الحكومة وهو رشاد حسين (سفيرا للحرية الدينية الدولية)، لكن لا يُلاحظ ذلك التغيير في سياساتها، ولا في التصريحات التي تدلي بها، ولا يوجد تحول كبير.
-
أنت نصحت بايدن، أليس كذلك؟
لقد نصحته بعد 11 سبتمبر/أيلول، عندما كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية، ما اكتشفته مع بايدن لم يكن غريبا.
بعد 11 سبتمبر/أيلول، طلب مني عدد من الأعضاء -أو الأعضاء السابقين- في مجلس الشيوخ إجراء بعض المحادثات، وما اكتشفته في تلك الأيام هو أن الشرق الأوسط لم يكن يؤخذ على محمل الجد. كان لدى معظم أعضاء مجلس الشيوخ أو أعضاء الكونغرس شخصا ما من بين موظفيهم للتعامل مع الشرق الأوسط، لذلك كانوا يعتمدون على ذلك الشخص الذي يكتب تقريرا لهم. وهكذا عندما التقيت بالرئيس بايدن، كان منفتحا على الرغبة في فهم الشرق الأوسط، لكنه كان خبيرا في أوروبا -كما قال- وخاصة في فرنسا.
ولكن كل ذلك تغير بشكل كبير بعد 11 سبتمبر/أيلول، ومهّد الطريق للمشكلة التي كنا نعرفها. ذهب الرئيس جورج بوش إلى مسجد وألقى بيانا لطيفًا للغاية. ولكن من ناحية أخرى، غزونا العراق وقلنا إن هذا كان من أجل “تحريره”، غير أننا كنا نحتله.
-
لسنوات، كانت هناك شائعات عن هويتك أو موقفك الديني.
يضحك.. ما كان يجب أن نتناول الإفطار معا أبدا.
-
أتساءل: هل هناك شيء تريد مشاركته معنا؟
نعم، لقد كنت أقول إنني سأشرح الأمر، لقد دُعيت للقيام ببرنامج في الإمارات مع بعض ممثلي الحكومة البريطانية والمسلمين، ضم كبارا وصغارا في السن، وجهات حكومية. كانت جلسة مغلقة غير متاحة للنشر. كنت متعبا، وطلبوا مني في آخر جلسة إلقاء خطاب، وكنت آخر المتحدثين، وقررت أنني لا أريد الحديث. نظرت في عيون الجمهور وقلت إنني أعرف أن هناك الكثير من الأسئلة المتعلقة بي من حيث هويتي. بعض الناس يعتقدون أنني سأخرج من الخزانة في مرحلة ما وأقول إنني كنت مسلما طوال الوقت.
-
ما شعورك حيال هذه الملاحظة؟
أشعر بالامتياز، لأنهم على مستوى معين يقصدون أنني أفهم الإسلام جيدا، ولدي مصداقية.
-
سؤال أخير بصفتي منغمسة في دراسة الدين والروحانيات: لم نتمكن من التعمق كثيرًا في خلفيتك الخاصة، لكنني أتساءل ما الذي يحدث برأيك بعد أن نموت؟
حسنًا -يضحك- أعتقد أن الذين لا أحبهم سيذهبون إلى الجحيم. وأنا قلق بشأن الذين لم يعودوا يؤمنون بالجحيم، لأنني نوعا ما أريد أن أقول: بعد أن نموت، أعتقد أن هناك حياة أخرى.
وأعتقد أن الذين يعيشون حياة طيبة، خيّرة، مهما كان إيمانهم، وحتى لو لم يكونوا مؤمنين، إذا كانوا يعيشون حياة طيبة، فإنني أعتقد أنهم سيكونون في سلام وهناك (في الحياة الآخرة). كما تعلمون، ستكون هناك حياة، وإذا سنحت لي الفرصة في ليلة ما فسأظهر لك في منتصف الليل وأقول: مرحبا، أنا أتصل من الطابق العلوي، وأريد فقط أن أخبرك، لقد كنت على حق، كنت على حق.