د ياسر يوسف إبراهيم يكتب: قصة الجيوش الموازية

منذ ظهور التنظيم الحديث للدولة بمؤسساتها المعروفة لجأت النظم السياسية إلي إنشاء جيوش موازية لمساندة جيشها الرسمي في القيام بوظيفته القتالية ، تتبعت خلال اليومين الماضيين قصة الجيوش الموازية تركيزا علي تجربة قوات الإنكشارية في الإمبراطورية العثمانية ، وتوصلت إلى جملة من المبادئ والقوانين التي ظلت تحكم مسيرة هذه القوات في صفحات التاريخ ، وللغرابة فإن وقائع بدايتها ونهايتها ظلت ثابتة تتكرر من دولة إلى أخري بذات التفاصيل ، وصدق الإمام علي بن ابي طالب إذ يقول ( ما أكثر العبر وما أقل الإعتبار ) ..
أنشئت الفرقة الإنكشارية مع بدايات الدولة العثمانية بعدما برزت الحاجة إلى قوة مشاة خفيفة الحركة تساهم في محاصرة القلاع الأوربية ، ولما كان عمادها من أطفال الخلاوي وبعض الأطفال من خلفيات مسيحية إعتنقوا الإسلام وتمت تربيتهم علي ثقافته ، فقد تم عزل هؤلاء وتلقوا تدريبا عاليا وامتلكوا تسليحا جيدا ، وعرفوا بولائهم الشديد للسلطان بإعتبارهم أبنائه ، في سنوات قليلة إستطاعت الفرقة الإنكشارية أن تحقق إنجازات عسكرية ضخمة كان لها الأثر في توسعة الدولة العثمانية ، وأبهرت الأوربيين والعالم وقتها بحسن تنظيمها وقوة عقيدتها القتالية ، رويدا رويدا تضخمت القوة وتملكها إحساس العظمة وأنها أقوي من الجيش الرئيسي بل وأقوي من السلطان نفسه ، بهذا الإحساس تخلت الإنكشارية عن وظيفتها التي أنشئت من أجلها وصارت تعزل السلاطين ، بل وقتلت بعضهم كما صار عاديا عندها تصفية كبار رجالات الدولة…
حين استفحل أمرها وضاق الناس ذرعا بجرائمها إنطلقت دعوات إصلاح الجيش العثماني ليواكب الجيوش الأوربية الحديثة ( هل يذكركم هذا الأمر بهيكلة الجيش وقصة الدمج ) قاومت الفرقة محاولات دمجها في الجيش الرسمي وتمردت علي سلطان الدولة حين نزلت للشوارع وأحرقت الأسواق ونهبت المواطنين ، مع فجر أحد الأيام باغتهم السلطان بحشد كبير من الجيش الرسمي وأمطرهم بوابل من النيران فقتل منهم ستة آلاف قبل أن يصدر فرمانا بحل هذه الفرقة ( سبحان الله هذا هو كتاب التاريخ فمن يعتبر ) ..
أوردنا هذه القصة لنصل إلى القوانين الثابتة التي تحكم بداية ونهاية الجيوش الموازية، والتي يمكن تلخيصها في الآتي :

  • تؤسس الجيوش الموازية عند الحاجة لإسناد الجيش الرسمي ، ولكن وبحكم تكوينها وطبيعة تسلسلها القيادي وطبيعة تسليحها تكون خفيفة الحركة ، ومتحللة من أعباء الإلتزام بسلسلة القيادة الصارمة وقوانين الحرب المقيدة عند الجيوش الرسمية ..
  • تبدأ هذه القوات فتية قوية ، تؤدي مهام قتالية مبهرة وتحقق إنتصارات كبيرة في بداية أمرها ، وذلك لأن العدو ما ألف مثل هذه الطريقة في القتال ، هذه الإنتصارات تسبب الغبن والغيرة لدي الجيوش الرسمية ولكنهم يكتمونها ، مخافة من غضب الرأي العام الذي يتعاطف مع أخبار الإنتصارات ..
  • نتيجة لتلك الإنتصارات تبدأ هذه القوات في الإحساس بتضخيم الذات ، ويتملكها شعور قوي بأنها أقوي من الجيش الرسمي ، وتظهر رغبتها في وراثة هذا الجيش ..
  • هنا ترتكب هذه القوات أخطاء قاتلة ، إما بالتدخل في سياسة الدولة ، أو التورط في قتل السلاطين والأمراء ، أو التسلط علي أصحاب القرار ، وهو الأمر الذي يولد الغبن لدي الطبقة الحاكمة ..
    _ حين يستفحل أمر هذه القوات وجرائمها ، ويلتقي غبن الطبقة الحاكمة مع غبن العامة الذين نشرت الظلم بينهم ، يستجمع الجيش الرسمي قوته وخبرته التاريخية ، ويستفيد من ولاء الناس التقليدي له ( فالناس مجبولون علي حب ما اعتادوه ) وينقض علي هذه الفرقة التي ظنت وهما أنه بمقدورها تغيير قواعد اللعبة المستقرة ..
    هذه قصة التاريخ وعبره تتكرر كل حين ، وحقيقتها تقول أن الجيوش الرسمية قد يصيبها الوهن ويتراجع شأنها ، وأن الفرق الموازية قد يعلو شأنها حينا من الدهر ويعظم أمرها ولكن ظل النصر دائما حليف الجيش الرسمي لأنه يقاتل بروح الدولة ، وروح الدولة هي ثقافتها وعمقها الإجتماعي وعقيدتها المتوارثة جيلا بعد جيل ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *