بحصافة إمام محمد إمام عصام الصائغ يُودع الحياة الدنيا من الزيتونة

ودع الأخ الصديق عصام الدين الصائغ المخرج التلفزيوني المبدع والإعلامي المجدد، بعد معاناة مع المرض (القضاء المؤجل)، هذه الحياة الدنيا، بعد أن أدركه القضاء المبرم (الموت) في مستشفى الزيتونة التخصصي بالخرطوم. فالموتُ لا محالة مُدركنا جميعاً، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”.
وللأخ عصام الصائغ ابنين عبد العزيز ورحيق.
كان الراحل عصام الصائغ من المخرجين التلفزيونيين المبدعين المجددين في أعمالهم وبرامجهم التلفزيونية. وكان إسهامهم الإخراجي التلفزيوني ينداح في القنوات التلفزيونية داخل السودان وخارجه منذ سبعينات القرن الماضي، ويحظى بقبول المشاهدين، وإشادة نقاد الفنون والإبداع في الوسائط الصحافية والإعلامية. وكان مع نفرٍ من المخرجين التلفزيونيين قد أثروا ساحة الابداع والبرامج التلفزيونية -التقليدية والحديثة-، ببرامجهم التلفزيونية الخالدة، رغم غيابها عن الشاشة البلورية لسنوات خلت. انخرط في العمل التلفزيوني، إلى الدرجة التي أثرت سلباً في دراسته الجامعية، ولكنه أدرك أن الموهبة الإبداعية ينبغي أن تُصقل وتُؤهل أكاديمياً، فوجد ضالته في معهد الموسيقى والمسرح، فالتحق به لا لكي يحصل على الشهادة، بل لكي يطور مهارات الممارسة. وحقق وطره من المعهد، فأصبح من المخرجين التلفزيونيين الذين يُشار إليهم بالبنان، ويحرص كثير من مقدمي البرامج، لا سيما برامج المنوعات والبرامج الجماهيرية، على أن يكون مخرج برامجهم عصام الصائغ.
درس الراحل عصام الصائغ الإخراج التلفزيوني بالقاهرة في سبعينات القرن الماضي، وطبق تلك الدراسة في التلفزيون المصري، بإشراف المخرجين المصريين نور الدمرداش وفهمي عبد الحميد ومحمد فاضل. وتم تعيينه في التلفزيون السوداني في عام 1979، وأول برنامج أخرجه، كان برنامج “كوكتيل”، وجدى صداً وقبولاً طيباً من المشاهدين. وعمِل في التلفزيون السوداني لمدة عشر سنوات، وتخصص في برامج المنوعات والبرامج الجماهيرية. وشغل مدير إدارة المنوعات بالتلفزيون السوداني.
عرفتُ الأخ الراحل عصام الدين الصائغ منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، إذ كنت أقدم برنامجين للتلفزيون أسبوعياً، أحدهما كان برنامج “شذرات من الثقافة” مع البروفسور العلامة أستاذي الراحل عبد الله الطيب، بالإضافة إلى برنامج يومي (آفاق) في الإذاعة السودانية، إلى جانب حضوري لبعض المسرحيات التي تُعرض في المسرح القومي، ليس بغرض المشاهدة والمتعة، ولكن بهدف كتابة مقال نقدي عن بعض المسرحيات، للملحق الثقافي لصحيفة “الصحافة” في عهد أستاذي الراحل فضل الله محمد، لذلكم كنتُ آنذاك أعرف دهاليز الجيشان الثلاثة جيداً، حيثُ كنا نلتقي كثيراً مع الأخ عصام الصائغ وآخرين، في ما يُعرف بالحيشان الثلاثة (الإذاعة والتلفزيون والمسرح). وأكبر الظن عندي، أن أول إمرأة مارست بيع الشاي والقهوة، كانت تلكم التي تحت شجرة ما بين الإذاعة والتلفزيون آنئذٍ! وكان العاملون في هذه الحيشان الثلاثة يترددون عليها مع ضيوفهم. فكان عصام الصائغ بين هذه الكواكب قمراً -خُلقاً وأخلاقاً- حلو المعشر، وطيب المعاشرة، وكريم الخصال، يعشق الهدوء، ويحب البساطة. ويتميز بعلائق واسعة مع الجميع، حليم صبور في العمل العمل وخارجه.
وفي رأيي الخاص، لم يكن الراحل عصام الصائغ مخرجاً تلفزيونياً فحسب، بل كان مخرجاً ومنتجاً، وفي بعض البرامج التلفزيونية مقدماً. فالذين يفهمون طبيعة الإخراج يستغربون من هميميته، في كيفية تواصله مع كبار الفنانين الذين كان يأثرهم بدماثة خُلقه، وحلاوة نطقه، فيجدون حرجاً في الاعتذار له، ويمكث الساعات الطوال في إعداد برامجه واستقبال ضيوفه وتهيئتهم بأسئلته من نوع السهل الممتنع. لذلكم كان لبرامجه الجماهيرية صدىً واسعاً، يترقبها بشغف أهل الحضر والبدو.
وأحسبُ أن الكثيرين من متابعي البرامج التلفزيونية طوال ما يزيد عن أربعين عاماً، لا ينسون البرامج التلفزيونية الخالدة قدمها الراحل عصام الصائغ، فما زالت الذاكرة تحتشد بأعمال تلفزيونية خالدة، منها (فرسان في الميدان) مع حمدي بدر الدين، و(أمسيات) مع متوكل كمال، و(أسماء في حياتنا) مع عمر الجُزلي، و(خد وهات) مع أدمون منير، و(جلسة فنية)مع الموسيقار الماحي سليمان، و(فنان تحت المجهر) مع الموسيقار الفاتح الطاهر، و(نجوم في سهرة) مع ليلى المغربي، وكان أول مخرج يعمل معها، و(لمة حِبان) مع كمال حامد.
ومَنْ مِن جيلنا والأجيال السابقات، ينسى تلكم السهرة البديعة التي قدمها عصام الصائغ مع الفكي عبد الرحمن والبلابل وأنس العاقب والدكتور عوض دكام (ملك البديهة الحاضرة، والنكتة الظريفة) في عام 1987.
واكتسب الراحل عصام الصائغ تجارب متراكمة في العمل التلفزيوني -فكرةً وتخطيطاً وإخراجاً-، وذلك خلال عمله في التلفزيون القومي الذي تسنم منصب مدير قطاع الثقافة. وهاجر إلى أرض الله الواسعة، منها أبوظبي وماليزيا. ومن ثم عمِل في قناة الخرطوم مديراً للبرامج. وكان عوناً صادقاً، ومساعداً مخلصاً، للأخ حُسين خوجلي في تأسيس قناة أم درمان الفضائية وتطويرها، فتم تعيينه فيها مديراً للبرامج، ثم نائباً للمدير العام. وعمِل بخبرته المتراكمة في العمل التلفزيوني في المجال الأكاديمي، حيثُ كان أستاذاً في الإعلام بجامعة غاردن سيتي في الخرطوم.
وكان الراحل عصام الصائغ لا يبخل على زملائه المخرجين بتقديم النُصح لتجويد برامجهم، وكان يمر على بعضهم أثناء بث برامجهم ومن حجرة الكنترول يُسدي لهم النُصح الجميل، خاصةً تلكم البرامج التي تحت مظلة قطاع الثقافة.
أما صلة الراحل عصام الصائغ برنامج (صحتك) الذي كان يقدمه البروفسور مأمون حُميدة في تلفزيون السودان، كان جُهداً إشرافياً عليه في مرحلة من المراحل، عندما كان مستشاراً للمدير العام للجودة. وقد ساعد كثيراً في تذليل بعض الصعاب التي واجهت البرنامج. وعمِل على تهيئة أسباب استقرار فريق البرنامج. وحسب علمي ومشاهدتي، لم يكن البروفسور مأمون حُميدة مقدماً لذاكم البرنامج الصحي التوعوي فحسب، بل كان مقدماً ومنتجاً له، إذ كان هو الذي يُحدد الضيوف ويُناقش معهم مواضيع الحلقات، ويشرح باستفاضة لفريق العمل، اللقطات الميدانية التي يُقدمها.
أخلص إلى أن الراحل عصام الصائغ، عندما داهمه مرض الكبد الوبائي في المرة الأولى، وفور علمه بذلك، وجه الأخ البروفسور مأمون محمد علي حُميدة رئيس مجلس أمناء جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، كعادته في مثل هذه الحالات، بإحضاره إلى مستشفى الزيتونة التخصصي للمتابعة، وكانت الدكتورة سوزان مأمون مديرة المستشفى تتابع الحالة بنفسها، ولكن عندما استرد بعض العافية، أصر على مغادرة المستشفى إلى المنزل، وبالفعل حققت له المستشفى رغبته. وبعد أن اشتد عليه المرض، نصح البروفسور مأمون حُميدة أسرته بأنه من الضروري إعادته إلى المستشفى لمتابعة بعض العلاجات التي لا تتيسر له في المنزل. فلمّا تواصل بعضهم معه وهو في الخارج، حول حالة الأخ عصام الصائغ المرضية، يُريدون مناشدته للتدخل، طمأنهم بأن الاسعاف الآن أمام منزله لإحضاره إلى مستشفى الزيتونة.
وكنتُ أعلم أن البروفسور مأمون حُميدة على تواصل معه هاتفياً، وهو خارج البلاد. وعندما عاد البروفسور مأمون حُميدة إلى السودان، كان متابعاً دقيقاً لحالته، وكان في ركب تشييعه إلى مقابر شرفي.
وهكذا ودع الأخ عصام الدين الصائغ هذه الحياة الدنيا من مستشفى الزيتونة التخصصي. واستذكرنا مع وداعه، ما قاله الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سلمى:
كُلُ ابنِ أُنثى وإن طالتْ سَلامَتُهُ
يَوماً على ألةٍ حَدْبَاءَ مَحمُولُ
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الصديق عصام الدين الصائغ قبولاً طيباً حسناً، ويُلهم آله وابنيه وذويه وأهليه جميعاً وزملائه وتلاميذه وعارفي فضله، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: “ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

i.imam@outlook.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *