وكالات : كواليس
“بعد السَكرة تأتي الفكرة” كما يقول المثل العربي، وبعد عقود طويلة من الثقة الغربية بالحداثة كنظرة متفائلة لمستقبل مشرق للعالم، وتسيّد مفاهيم العقل والحرية والتقدم لحوارات القرن العشرين، أتت الفكرة بأقلام فلاسفة غربيين أعادوا مقاربة حدودها وإخفاق وعودها ومشكلاتها العميقة.
ومن هؤلاء الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (102 سنة) الذي لا يفتأ يستخدم لفظ “الأزمة” لمقاربة إشكاليات الحداثة وتناقضاتها وتأثيراتها على الفكر والحياة، كما تبدو عناوين كتبه “هل نسير نحو الهاوية؟” و”الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا” و”عنف العالم” و”الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة” و”دوامة الحاضر” و”أزمة الحداثة” وغيرها.
يرى موران أن استخدامه مصطلح الأزمة دقيق، فهو لا يفرط في استخدامه سوى لأن التناقضات والتقلبات الحداثية بلغت ذروتها، وذلك بإخفاق وعود التقدم والسعادة والتحكم في الكون، وهو ما زعزع الثقة بفلسفة الحداثة على خطى فلاسفة غربيين كثر شككوا في “التفاؤل المعتوه” وأيقنوا بغموض المستقبل وشقاء الإنسان وارتابوا بخصوص “أساطير الحداثة الكبرى” حيث “دخلنا عهد الاستشكال المعمم ونهاية الأساطير الكبرى” ولم يعد القرن الـ21 زمنا موعودا لقطف ثمار تقدم الإنسانية الناضجة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي.
في المقابل، بدلا من فكرة “حتمية التقدم الخطي”، ينظر الفيلسوف الفرنسي لمظاهر التقهقر والانحطاط الحديثة بعين المحلل والناصح، معتبرا أن الإنسان قادر على فعل الأصلح، والأسوأ على حد سواء، ولافتا إلى الوحشية والهمجية “المترتبة على حضارتنا التي لم تفضل في الحد من الهمجية القديمة فحسب، وإنما بلورت وحشية وهمجية حديثة لها وجوه عقلانية وتقنية وعلمية سمحت بحدوث الحربين العالميتين وفظائعهما في قرن العنف المجنون والموت الكبير”.
الهمجية في الحضارة الغربية
في عمله لدراسة أزمة الحداثة، توقف موران عند مفهوم “الهمجية” أو البربرية، متناولا كوارثها عبر التاريخ الغربي كله وليس فقط خلال النظامين الاستبداديين الكبيرين اللذين سيطرا على القرن العشرين (الهتلرية والستالينية) كما فعل غيره، ويجادل بأن “الهمجية الغربية” ليست نتاجا للعنف والدمار فقط، ولكنها أيضا نتيجة لنزع الصفة الإنسانية والاغتراب اللذين يميزان الحداثة بما في ذلك مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا، وتناول وجوه “الهمجية” العديدة من التعصب الديني إلى الاستعمار إلى الشمولية ويشرح كيف تشابكت هذه الأشكال المختلفة من الهمجية مع بعضها بعضا ومع الاتجاهات التاريخية الأوسع.
وتتبع موران الظاهرة بدءا من أصولها القديمة في اليونان وروما، إذ يرى أن الإغريق والرومان لم يكونوا مسؤولين فقط عن إنشاء أسس الحضارة الغربية فحسب، ولكن أيضا عن إرساء الأسس التي أدت لانحدارها في نهاية المطاف نحو هاوية الهمجية.
ولا يعد اهتمام المفكر الفرنسي بنقد تأثيرات الحداثة الغربية على العالم جديدا، ففي كتابه “الأرض الوطن: بيان الألفية الجديدة” (1999)، فحص موران تأثير الحضارة الغربية على البيئة، مجادلا بأن تركيز مجتمعنا على التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي أدى إلى تدهور العالم الطبيعي وتشريد الشعوب الأصلية. كما يستكشف جذور هذه النظرة للعالم في الفلسفة الغربية وتحولات الدين والثقافة التي رافقت هذا المنظور، ويقترح أن هناك حاجة إلى نهج أكثر شمولية وترابطا لفهم الإنسانية والعالم الطبيعي لمعالجة هذه القضايا.
وفي كتابه “سبعة دروس معقدة في التعليم من أجل المستقبل”، لم يتوقف موران عند تشخيص الأزمة وإنما ركز على الحاجة إلى نهج متعدد الأبعاد للتعليم يأخذ في الاعتبار تعقيد الخبرة والثقافة الإنسانية. وجادل بأن التعليم يجب أن يشجع التفكير النقدي والتعاطف والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، كما يجب أن يعالج قضايا عدم المساواة الاجتماعية والتنوع الثقافي والترابط العالمي.
في كتابه “الطريقة: نحو دراسة للبشرية”، شدد الفيلسوف الفرنسي على الحاجة إلى الاعتراف بالترابط بين الجوانب المختلفة للتجربة البشرية والثقافة، والانتقال إلى ما وراء النهج التبسيطية أو الاختزالية لفهم الظواهر الاجتماعية.
وبشكل عام، تؤكد دراسات موران حول موضوع الهمجية في التاريخ الغربي والحضارة أهمية “الاعتراف بالجوانب المدمرة لهياكلنا الاجتماعية والثقافية ومواجهتها”، مع تعزيز التعاطف والحوار بين الثقافات المختلفة وفهم أكثر شمولية للإنسانية والعالم الطبيعي (البيئي).
حداثة بديلة
وإذ قدمت قراءة الفرنسي إدغار موران لمصير الحداثة الغربية نوعا من النقد الذاتي، قدمت قراءة أخرى على الجانب الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط نوعا من القراءة الغيرية، وتجاوز الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن (79 عاما) بمؤلفه البارز “روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية” موقف النقد، ودعا لضرورة تأسيس حداثة بديلة عن الحداثة الغربية.
وفي ورقتها المنشورة بمجلة آفاق فكرية التابعة لجامعة جيلالي ليابس بسيدي بلعباس الجزائرية، قالت الباحثة فطيمة زهرة بوشريحة إن نظرة عبد الرحمن للحداثة كانت موضوعية فقد اعتبر أنها صنعة بأنامل الإنسان، وما دام الأمر كذلك فبالإمكان تعديلها وتقويمها إن دعت الحاجة من خلال الابتكار وإعمال النظر بعيدا عن التبعية.
وجاء مشروع عبد الرحمن لتأسيس “حداثة عربية إسلامية” بناء على النقد الأخلاقي الشائع للحداثة الغربية كالذي قدمه الفيلسوف موران وغيره من الفلاسفة الغربيين ومنهم مدرسة فرانكفورت الفلسفية الشهيرة، لكن عبد الرحمن يشدد على أن الأخلاق تُستقى من الدين معتبرا التقدم الروحي نظيرا موازيا للتقدم المادي، ويقول “إذا كان العقل الحداثي الطامع في ترسيخ الذات الإنسانية يبدع الآلة بغرض الجواب عن السؤال الذي مفاده: كيف نغير العالم؟ فإن العقل الناظر العابد يبدع الآلة بغرض الجواب عن السؤال الذي مفاده: كيف نعمر الأرض؟ وشتان بين هذا الفعل الفلسفي وذاك”، كما يقول الفيلسوف المغربي.
ويشرح عبد الرحمن قائلا إن السؤال الأول غرضه التغيير، لأن إجابته تفضي لقوانين علمية، أما السؤال الثاني فيقود للتعمير الذي ينافي الطمع والجشع ويتجنب مصير الاغتراب والكآبة كون التقدم المادي فيه جاء على حساب رصيد القيم، معتبرا أن “الأمة أحوج إلى البدء بتجديد الإنسان منها في تشييد العمران”.
ويرى عبد الرحمن أن الحضارة المبنية على العقل وحده فحسب ناقصة، لأنها تقع في آفات العقل المحض المعروفة، داعيا لعقلانية بديلة تأخذ بالاعتبار عوامل التعدد والفعالية، والتقويم بالاستناد للقيم، والتكامل بين أطراف وخصائص متعددة فلا يستقل العقل عن الأخلاق.
وتقول الباحثة بوشريحة إن عبد الرحمن يتفق مع موران في النظر بعين النقد “للطغيان العلمي الذي وصل إليه الإنسان المعاصر وتهميش إنسانية الإنسان وإقصاء أهم جوانبه كالجانبين الروحي والأخلاقي”، وبهذا الشكل تحولت الحداثة من مشروع لأزمة كما عبر موران في قراءته للحرب العالمية الأولى التي عاش آثارها صغيرا.
في المقابل، انفرد عبد الرحمن بأولوية الجانب الأخلاقي للإنسان داعيا الحداثة العربية الإسلامية لتفعيل مبدأ النقد القائل بضرورة فحص جميع الأفكار وربطها بمجالها التداولي الإسلامي، ثم التركيز على الإبداع باعتباره يقود إلى التقدم.