وكالات : كواليس
تسكن بلاد النوبة المصرية قبيلة بسيطة لا يكف أبناؤها منذ نعومة أظفارهم عن مصمصة شفاههم تعبيرًا عن أساهم وشجنهم لضياع آمالهم وأمانيهم، وعلى دربهم سارت الروائية والشاعرة والأكاديمية المصرية فاطمة قنديل في “أقفاص فارغة” ليجيء عملها الإبداعي على الحافة بين الرواية والسيرة الذاتية المُتقنة بأسلوب سلس ولغة متدفقة تمزج الفصحى بالعامية لتصوغ مضمونا بالغ القسوة.
تروي الرواية الواقعية -المكتوبة بلغة عارية غير شعرية التي تنتمي لفن “الرواية السيرذاتية”- تقلبات الطبقة الوسطى ومعاناتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ونالت عنها الكاتبة في ديسمبر/كانون الأول الماضي “جائزة نجيب محفوظ” المقدمة من الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكشفت بها عن حيوات مريرة تشبه عمل الروائي المغربي الراحل محمد شكري صاحب “الخبز الحافي” (1972م) والفرنسي يان مويك، في “أورليانز” (2017م)، وغيرهما من كتاب الواقعية المأساوية.
بدت الكاتبة غير وجلة ولا خائفة من الإفصاح عن نوائب الدهر والمظالم التي عاشتها، عدا قلائل عفتْ عنهم وسامحتهم وأولهم الأم “سعاد” والصديقة المقربة “رئيفة”، فقد طلبت الأخيرة أن تروي الكاتبة عنها فاعتذرت لأن “سيرة ما لم تكتبه فاطمة قنديل” (كما العنوان الفرعي للعمل) ما كان لها احتواء تفاصيل تنتمي لحبيبة مقربة.
جاء العمل الإبداعي في 257 صفحة و3 أقسام و104 وحدات سردية، وصدر عن “دار الكتب خان” المصرية في 2021م، ولم تكد تخلو وحدة منها من أمنية تتكرر بألفاظ ومشتقات وحيل أدبية مختلفة تنطلق من ضمير المتحدثة “قال لي: اكتبيها بضمير الغائب (السيرة)… أنا أريد أن أحضر كما لو أنني كنتُ غائبة دائمًا”.
إنه الشجن الذي بدأ مع البطلة حتى قبل الولادة، مع أُمٍّ عانت طويلا، وخلال أشهر الحمل كانت تسكب الدموع وتمضغ الفتات في بطنها، تبلغ المأساة حدتها بخيبة أمل هائلة لامرأتين عانتا من تبدل أحوال الطبقة المتوسطة من المصريين وانهيار كامل لمسيرة الأحلام عبر أكثر من 70 عامًا، فضلا عن مآسٍ اجتماعية تعبر عنها في أحد مقاطع الرواية بالقول “ما تزال صورة أمي مع العريس الأنيق (الأول) في بيتي أعلقها.. بالقطع لم أره لكنني تمنيتُ لو كان أبي”.
زادت فاطمة قنديل على سابقيها من الكُتَّاب المشابهين بأمنية التعافي، فرغم الأسى أرادت البطلة “اليقظة التي لا تفوت ضوءًا واحدًا في جوفي إلا حدقتُ فيه حتى يتلاشى”، وقد تجاوزت الكاتبة مصمصة الشفاه النوبية، وإن أوجعتْ بسردها إلا أنها كشفت عن إنسانيتها غير المحدودة بكل وحدة سردية لما كررتْ معاني أبرزها أن “كل ما كتبته على هذه الأوراق كان مؤلمًا لكنني كنتُ أتعافى منه في اليوم التالي”.
على خطى “الإخوة كرامازوف”
تروي الرواية سيرة شقيق البطلة الكبير “راجل” وتشرح “لماذا لم أستطع أن أكتب ما أكتبه الآن إلا بعد أن عرفتُ بخبر موته”، فهو واحد من شخصيات لم تسامحها الكاتبة منذ الصفحات الأولى، وتحكي كيف تلاعب بأبيها، رفض الذهاب لامتحانات الثانوية المتعاقبة، تشاجر معه، سافر لألمانيا، تعرض للسجن، عاد مهزومًا بعد نحو 32 عامًا وكان على البطلة تحمله بقدر تنكره لها ولوالديه اللذين ماتا ولم يأسَ عليهما كما ينبغي.
أما الأخ الآخر رمزي فعرف الثراء بعد خبرته بالوصفات واستخدامه الطب للمتعة، أحسن لأمه المريضة بسرطان الغدة الدرقية ثم العظام لكنه تعمد التنكر للأسرة كلها بمواقف حاسمة أبرزها تركه للأخت والأم في قلب المرض “كم تمنيتُ أن أحمل ماما في السيارة الداتسون للمستشفى”، كان رمزي يملك السيارة.
وتعيد الرواية التذكير برائعة الأديب الروسي فيودور دستويفسكي في روايته “الإخوة كرامازوف” عام 1880م عندما رحل متأثرًا بأبيه الطبيب المتجبر عليه وعلى إخوته حتى لقي مصرعه على يد أحد مرضاه.
وبرواية فاطمة قنديل صراع قاسٍ بين أشقاء وأبٍّ متصابٍ لا يهتم إلا بملذاته؛ فيتعلمون منه الإبقاء على متعتهم مهما كلفتهم، ورغم مساحة البوح الفضفاضة بعمل فاطمة الأدبي فقد قفزت متعمدة فوق أحداث نادرة منها كيفية وفاة والد البطلة الذي تراه للآن يطرق بابها في المنام ولم “أفتح له حتى رحل للأبد”.
إنه الأب غريب الاسم والصفة واستبعدته الراوية حتى من اسمها، وجاءت حياته موافقة لحياة أبيه الذي امتلك محلًا تجاريًا كبيرًا بأرقى الأحياء القاهرية فضيّعه بالعلاقات النسائية، فيما عانت زوجته بهيرة من الخيانة والفقر معا، مثلما عانت جدة الساردة لأمها من سرطان العظام الذي أودى بحياتها، وأوصت بعدم إجهاض الحفيدة.
إنها المعاناة “النسوية الحقيقية” المُتوارثة مع الأجيال التي لم تنجح بطلة العمل في كسرها بزواجها مرتين من مستثمر مغامر ثم كاتب بوهيمي (متشرد)، لكن الخالة والخال نجحا بالبقاء على قيد الحياة بعد انتحار شقيقهما الأصغر الأقرب لوالدته وأخته (أم البطلة) ومع ذلك فإن أسرة الأخيرة توارثت الهزال الاجتماعي والفرقة وظلم المرأة، كما تقول الكاتبة.
أحلام واهية
حاولت البطلة كسر المأساة الشخصية في صباها بالذوبان في هدف أعم وأكبر وهو تحرير الأمة العربية من الكيان الصهيوني فحلمت مع أقرانها بالحرب والانتصار في الستينيات، لكن المعاناة والآلام لم تترك لها فرصة في محيطها الخاص بدءًا من الجار القاسي محمود الذي عاش بفيلا “الألف مسكن” وعمل سكرتيرا بالرئاسة وكان لا يضرب أبناءه إلا بحديد حزامه الجلدي حتى يدميهم، ثم سجن زوج صديق والدتها “سالم” دون سبب سوى تعبيره عن رأيه؛ وازدادت المعاناة باضطرار أبيها وأمها للاقتراض من أهلهما ورفض الخال والعم دون اعتبار لخصوصية القرابة وسابق الإحسان؛ في إشارة لمعاناة طبقة حاولت الاحتفاظ بكرامتها وكيانها ففشلت بعد تحولات يوليو/تموز 1952م.
وأخيرا سقطت الأحلام الكبرى والبلاد في هزيمة وطنية كبرى أشعرت البطلة بأنها جاءت متأخرة كعادتها “أو ابنة غلطة كما كان يحلو لماما أن تقول”، ولا تذكر فاطمة قنديل شيئًا عن ثورة “25 يناير/كانون الثاني” كأنها ما كانت في حياة الساردة، لكنها تشير لحياتها خلال تلك الحقبة بأنها كانت تعيش مع أخيها الأكبر: “كنا مجرد غريبين اضطرا أن يعيشا تحت سقف واحد”.
مثلت الرواية المتفجرة بالمعاناة الإنسانية مثالًا للسيرة الذاتية البالغة الإيلام في محاولاتها للتطهر إبحارًا في الانكسارات التالية لأزمنة شهدت آمالًا وأحلامًا وطنية كبرى، وجاء هدم بيت الطابق الأول بحي مصر الجديدة -الذي أقامت الأسرة فيه بعد طول ترحال من محافظة السويس للسعودية مرورًا بحيي ألف مسكن ومدينة نصر- رمزا لمضي الأزمنة بما حوته، حتى أن الساردة إذ تمر بالشارع بعد هدم البيت الذي عاشت فيه تنسى أين كان يقع.
جسدت الكاتبة في عملها المأساوي حياة كاملة بكل حيرتها وتشتتها فرغم رفض نقاد ومبدعين للصراحة الزائدة التي لا تتوارى خلف أقنعة وشخصيات بديلة، فإن العمل جاء مدهشًا بسرده عن متناقضات النفس البشرية اللامتناهية بداية من روح النزق حتى التصوف والتأثر بواقع متناقض، وببعض روايات الراحل نجيب محفوظ مثل “الثلاثية” و”أصداء السيرة الذاتية”، ثم عادت بالانهماك في السخرية لتُذكر بـ”ثرثرة فوق النيل”، وتماستْ مع بعض روايات الراحل إحسان عبد القدوس كـ”أنا حرة”، أما هدم المنزل وترك صفحة ما حوّاه من محبة وصبر فيُذكر بوضوح بالراحل محمد عبد الحليم عبد الله في روايته “من أجل ولدي”.