يكتب بس! بقلم عثمان أبو زيد


سألت أحد رؤساء تحرير الصحف وكنت أكتب عنده مقالاً أسبوعيًا: لماذا لا تمنحون شيئًا مقابل الكتابة معكم؟ فقال لي: الكتابات كثيرة، والقليل منها يستحق مكافأة مالية، ولو أننا نعطي المال كل من يكتب عندنا لصرفنا ميزانيتنا كلها في المكافآت.
إجابة صادمة!
قلت له: كنت أكتب في مجلة بالخليج، كانت تعطيني على جهدي عطاءً غير مجذوذ. ذات مرة تسلمت من إحدى المجلات ألف ريال على مقال من ألف كلمة، يعني الكلمة الواحدة بريال…
أعجب لأناس لا يقيِّمون العمل الفكري والإنتاج الفكري، وما ذلك إلا مظهرًا من مظاهر التخلف الحضاري.
في تاريخنا الثقافي ما يملأ النفس بالفخار والعزة. كان العلم في مرتبة رفيعة، وكان هناك تقدير للعلماء. عندما وصل كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني إلى بغداد، كان سعر شرائه وزنه ذهبًا، يضعون الكتاب في كفة ميزان والذهب في الكفة الأخرى فيُشترى.
بل إن الخليفة الحكم المستنصر ابن الناصر عندما أتى أبو على القالي للأندلس وألَّف له كتاب (الأمالي) جعل المؤلف أبا علي في كفة والذهب في كفة فوزَنَه وأعطاه وزنه من الذهب بدل هذا الكتاب، وعكف الخليفة على الكتاب حتى حفظ كل ما فيه هو وغلمانه وجواريه.
ثم أتى على الناس حين من الدهر، ساءت فيه أوضاع العلماء والمعلمين، حتى إن (جراية) البغلة التي يركبها الشيخ في الأزهر صارت قيمتها أكثر من راتب الشيخ. والجراية هي الحبوب من الشعير أو العلف المخصص للبغلة.
أتأمل هذه القصص والروايات، وأنا أشهد ما يعايشه المعلمون في بلدي هذه الأيام، وكذلك أساتذة الجامعة.
زرت أستاذنا بروفيسور محمد أحمد الشامي في بيته ذات مساء في مدينة الثورة، وصادف في أثناء وجودي معه حضور شخص يسوق (كارو) بحمار، فوضع في يده مبلغًا من المال قائلاً له: هذا محصلة اليوم. التفت الشامي علي وقال: تصوَّر أن دخلي من هذا الحمار في الشهر يفوق راتبي في الجامعة؟!
ومن المفارقات التي مرت بي عندما صرت مسؤولا عن المطبوعات، أن حضر إلى مكتبي اثنان يطلبان أن أفصل بينهما. أحدهما معلم وضع كتابًا لطلاب الشهادة مما نسميه مذكرات، والآخر هو ممول طباعة الكتاب (المنتج). ويبدو أن الكتاب وجد رواجًا وصارت مبيعاته تدر مالا كثيرًا، فاستكثر المنتج نصيب المؤلف، فأراد أن يستقطع منه. وارتفعت أصواتهما أمامي، وخاطب المنتج صاحبنا المؤلف قائلاً له: أنا اشتريت الورق ودفعت تكلفة الطباعة، وأنا من يتولى تخزين الكتاب وحمله بالسيارة من المطبعة وتوزيعه… وأنت ماذا فعلت غير تأليف الكتاب؟!
وذات يوم قصدت أحد زملائي أزوره في بيته، فلما طرقت الباب خرج ولده الصغير، ودار بيني وبينه الحوار التالي:
ـ يا ولد. أبوك موجود؟
ـ أيوا، موجود.
ـ هو فاضي ما مشغول بشيء؟
ـ أيوا، هو فاضي ما مشغول… هو قاعد يكتب بس!

عثمان أبوزيد ـ الخميس 2 مارس 2023م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *