في عام 2017 كنت في ولاية البحر الأحمر ضمن فريق سلسلة أرض السمر الوثائقية بقيادة المخرج الكبير الأستاذ سيف الدين حسن ، أخبرني الأستاذ سيف الدين قبل السفر بوقت كافٍ للإستعداد لكتابة مادة وثائقية عن مدينة سواكن ، فجمعت عددا مقدرا من الكتب عن تاريخ المدينة ، وكانت في بالي الرواية الشعبية الرائجة عن (كدايس سواكن) وعن أن سواكن كانت سجناً للجن في عصر نبي الله سليمان ، فحاولت بناء قصة إستناداً على هذه الرواية ، لكن وبالنقاش مع الأستاذ سيف الدين والمؤرخ الدكتور أسامة الأشقر راوي السلسلة وصلنا لقناعة أن هذه الرواية لا تصلح أن تكون أساسا لبناء وثائقي لضعفها وشفاهيتها وغياب ما يسندها في مصادر التاريخ المحكمة .
لكني مع ذلك ظللت طوال ثلاثة أيام أبحث عن ما يعضد (سُكْنة) سواكن أو أي دلالة تشير لوجود الجن فيها ، وذلك من خلال لقاءات مع كبار السن من أهالي المنطقة والذين لم يضيفوا غير ما هو متداول ، وقد وصل بي الأمر لمطاردة القطط ليلا في أطلال و (خرابات) جزيرة سواكن ، والتي يعود تاريخها لعهد السلطان سليم العثماني ، فلم أظفر بخيط حتى ولو كان واهياً يعزز ما أعتقده ، فعدت ملتزماً بما أتفقنا عليه ليخرج فيلم سواكن للناس بلا أي إشارة لما هو رائج عنها في الخيال الشعبي .
في الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة عن إستشهاد الفريق ركن الزبير محمد صالح ورفاقه في 12 فبراير 1998 ، ظهر لي أن فرضية (كدايس سواكن) هي ما تم البناء عليه في الأساس ، والحكم المسبق على تكييف المادة الإستقصائية جاء من السياق الذي وردت فيه والمسمى ب (الجريمة السياسية) ، فكان صناع الفليم كمن يصدر الحكم إبتداء ثم بعد ذلك يبحث عن الحيثيات المؤيدة له ، وهو أمر جديد في عالم الوثائقيات ، كما أن فرضية (الغموض) منذ بداية الفيلم تشير لأن الفيلم سينتهي على أسئلة مفتوحة بلا إجابات .
عمل صناع الفيلم بجهد كبير على ما هو رائج عن أن هناك تصفية تمت داخل الطائرة والتي تم تمثيلها وعرضها أكثر من مرة ، فتم (تتكيل) هذه الرواية بعدة سيقان واهية منها شهادة (حسن السماني خوجلي) والذي أفاد بوجود دماء على الكفن وأشار لرأس الشهيد لتدعيم الرواية المصورة التي تشير لأن التصفية كانت في الرأس ، كذلك شهادة إبنة أروك طون أروك والتي أفادت بأن هناك شخص (كبير وسياسي في الحكومة) أخبرها بأن تمنع والدها من السفر مع الزبير ، كذلك غياب التشريح ومعاينة ذوي الشهداء والذي قال عنه حسن السماني بإنفعال (دا يدل على أنو في جريمة) .
وقد بدأ التمهيد لإثبات فرضية التآمر والإغتيال بشهادة الفريق أول محمد بشير سليمان الناطق الرسمي الأسبق للقوات المسلحة والذي بدأ حديثه بأن (الزبير كان مؤثرا وسحب البساط من كل من كانوا في عهده في قيادة الإنقاذ) وهو أمر يهيئ المشاهد لأن هناك مستفيدين كثر ومؤامرة وراء غيابه ، وقد تعجبت من حديث الرجل وهو يطلق حكماً او تقييما في حق علاقة الزبير بالمؤسسة العسكرية فيقول (كان الزبير مبعداً عن مؤسسات الجيش ) وقد كان الأجدر أن يقول أنه كان (بعيدا) تحريا للأمانة والدقة فقد كان الزبير مكلفا بملف السلام منذ العام 1992 وفوق ذلك كان نائبا أول للرئيس ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ، وكذلك كان نظام الجيش في ذلك الوقت يعتمد على تراتبية الرئيس / وزير الدفاع (القائد الأعلى / القائد العام) لكن محمد بشير سليمان بكل أسف وقع في فخ الأسئلة والشراك (التقريرية) التي ينصبها معدي الوثائقيات لأصحاب الإفادات والشهادات في القضايا المختلف حولها ، ليختم إفادته بالقول : (إذا أردت أن تخفي جريمتك لا بد أن تخطط تخطيط كبير وأن يتم الإعتناء واقامة مراسم الاستشهاد بصورة في قمة الإبداع والروعة لتخفي جريمتك) وهذا تعريض لا يجمل بشخص في قامته العسكرية .
في نظري فقد أحدثت إفادات الدكتور ابراهيم الصديق علي توازنا كبيرا في محتوى الفيلم لكن هذا لم يمر على معدي الفيلم فكانت المعالجة أن يكتب تحت إسمه (قيادي في حزب المؤتمر الوطني المنحل) وهذه الوصف أدعى لإضعاف شهادته من أن يكتب أمام إسمه كاتب صحفي أو خبير إعلامي وهو ما يوصف به فعلا ، كذلك كانت شهادات الدكتور لام أكول والشيخ بيش كور وهما من الناجين من حادث الطائرة كفيلة بإغلاق ملف فرضية التآمر والإغتيال ، وشهادات العقيد الفاتح خضر العقيد عبد الكريم جودة معززة لأقوال الشاهدين ومرجحة للأسباب الفنية لسقوط الطائرة والتي ذكرت في التقارير المبذولة .
إجمالا كان الفيلم أشبه ب (سقطة) قناة العربية عن (البشير .. الساعات الأخيرة) فهو فوق المشاهد التمثيلية وأعمال الجرافيك فقد أعتمد على التحليل بشكل أكبر من إعتماده على المعلومات ، كما تناول علاقة الشهيد الزبير بالجيش وعلاقة الزبير بمصر وعلاقته بتنظيم الحركة الإسلامية ، وكثير من غث الحديث السفير خالد موسى والمحبوب عبد السلام ، وهو الأمر الذي لم يخدم قضية الفيلم بأي درجة من الدرجات ، إلا بالقدر الذي يرسخ التصور القديم حول فرضية الإغتيال والتـآمر .