أولا دعونا نقول إن ثقافة الإعتذار والإعتراف هي ثقافة جديدة في الواقع السياسي السوداني وصفة حميدة يجب أن نشجع الجميع لها ونكثر منها في واقعنا وعن تاريخنا، وهي شجاعة نادرة، علنا نعالج الكثير من المشاكل ونزيل الضغائن بأقل مجهود ودون تكلفة مادية أو حتى معنوية.
ففي بلادنا حدثت الكثير من القضايا التي تتطلب وتستحق الإعتذار بما فيها قضية تقويض الحكم الديمقراطي الذي جاء بإرادة الجماهير في 1969م و 1989م، فقد إرتكبت انتهاكات منذ قبل الاستقلال في 1956م أيضا دفع ثمنها المواطنين العزل من قتل وتشريد واغتصاب وتهجير وتنزيح سوى أن كان بواسطة جهاز السلطة أو فيما بين المواطنين أنفسهم.
هذا فضلا عن جرائم الاستبداد السياسي والتعذيب والاغتيال المادي والمعنوي للمختلفين سياسيا مع السلطة الحاكمة، ومن نافلة القول ان نذكر هنا جرائم التطهير العرقي الذي تعرض لها مثقفي النوبة في الحرب الأولى والتي عرفت باحداث خور العفن وكذلك حرب الجهاد في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الازرق وشرق السودان في التسعينيات من القرن الماضي، هذا بالاضافة لجرائم الإبادة الجماعية في دارفور والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي تتولى المحكمة الجنائية الدولية حاليا التقاضي فيها .
واذا نظرنا أيضا لجرائم الاستبداد السياسي من السلطة الحاكمة فيمكننا على سبيل المثال البدء بذكر بأحداث عنبر جودة وبيت الضيافة ومزبحة الجزيرة أبا ومزبحة مسجد الأنصار بودنوباوي وجريمة حرق قطار الضعين وتسليح القبائل وصناعة المليشيات القبيلة واغتيال الشيخ محمود محمد طه واغتيال الدكتور علي فضل واغتيال عدد من الشهداء في كجبار وبورتسودان وشهداء ثورتي سبتمبر وديسمبر وضحايا فض اعتصام القيادة وغيرها.
كل هذه القضايا والجرائم تجد ان المتهمين موجودين او قل بشكل أدق المشاركين في التخطيط والتنفيذ والتأييد موجودين فيما بيننا، ومثل هذه القضايا اذا لم تحسم او تعالج مرة وللابد فانها سوف لن تقود بنا لبناء وطن جديد خالي من الجراحات والغبائن.
وعودة للموضوع المطروح في عنوان المقالة وهي مواقيت إعتذار الجنرال محمد حمدان دقلو عن إجراءات فض الشراكة بينهم وبين المدنيين في 25 تشرين الأول أكتوبر 2021م والتي اطلق عليها بانقلاب وهو التعريف السائد لدى المجلس المركزي، فإننا نقول الاعتذار هو (محمدة) اتفقنا او اختلفنا في الموضوع المعتذر عنه، ولكن إلى ماذا ستقود او تهدف عملية الاعتذار في حد ذاتها؟ فالاخطاء في السودان ومن خلال السرد المبوب أعلاه لم يبداء تاريخ الانتهاكات في بلادنا يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 2021، ولم تنتهي بعده، فإذا لم نضع حد واضح وبشكل جماعي لها فانها سوف تتكرر بلا شك .
دعونا نتفق جميعا عنها أنها وغيرها من الاحداث والتي إرتكبت من أناس كثر تستحق منا أن يعترف بها ويعتذر عنها، في المقام الأول ومن خلال عملية ممنهجة تقود لهدف تعافي الأمة من جراحاتها التي إثقلت بها، وهو هدف سامي يعوض فقدنا يزيل الغبن ويداوي الآلام التي تعانيها امتنا ويعالج أخطأنا او على الاقل يزيح عثرات الطريق نحو البناء الجديد دون تكرار للجرائم بعدها، لذلك لا يجب ان تتم اي عملية بشكل منعزل ومنفرد وبل مبتور لا تستوعب حجم الجراحات او لربما تفهم بأن حق الآخرين لا يرتقي او يستحق الاعتذار مثلما اعتذر عن إجراءات فض الشراكة.
نحن جميعا نريد أن نسمع إعتذار المنتهكين(بفتح الهاء) للمنتهك حقهم خلال تاريخ البلاد وجد الأطراف او غابوا.
وليتم ذلك يجب أن يكون في إطار عملية شاملة تحوي كل الملفات فلا تترك شاردة منها او واردة، وافضلها عبر إجراءات للعدالة الإنتقالية والحقيقة المصالحة، ويعقبه إصلاح لجهاز الدولة وقوانينها لا يسمح لجرائم مثل هذه ان تحدث.
فمن ناحية لا يجب أن يفهم الاعتذار إنه من باب المكايدة السياسية وتسجيل النقاط على الخصوم في المعترك السياسي اليومي، فهذه قضية سامية يجب أن لا تقحم ويتم إبتذالها بخلافات فبدلا من أن تقود لتعافي فانها ستقود لمزيد من التعقيد.
فالسيد نائب رئيس مجلس السيادة لربما تطرق للأمر قبل مواعيده أو دون تهيئة للظروف المواتية له، لذلك لن يؤدي سوى لنتائج محدودة ولمجموعة معينة لربما على علم بفحوى الخطاب قبل إصداره، فالتاريخ لم يبدا ب(25) أكتوبر ولا القضايا التي تتطلب وتستحق الإعتذار كان ذلك بدايتها.