وكالات : كواليس
قد تبدو تصورات الجحيم المرعبة للشاعر الإيطالي الكبير دانتي أليغيري (فلورنسا، 1265 – 1321)، المتمثلة في دوائر عديدة محاطة بالدم والنار، عامل جذب طبيعي للسياسيين اليمينيين الذين يكثرون توظيف ثنائية الخير مقابل الشر في خطابهم، لكن هذا لا يفسر بشكل كاف لماذا أصبح الشاعر -الذي عاش وكتب قبل 700 عام- محبوبا من اليمين المتطرف الإيطالي الصاعد حديثا الذي يكثر من الاستشهاد بأقواله.
ينسب اليمين المتطرف في إيطاليا بشكل مضلل -حسبما تقول الصحفية الإيطالية آنا موميغليانو- أنفسهم لشاعر “الكوميديا الإلهية” بالعصور الوسطى، ويرون فيه رمزا ملهما رغم تناقضاته مع أفكارهم، وذلك تجنبا لاستيراد رموز ثقافية غير إيطالية.
وقسم دانتي ملحمة “الكوميديا الإلهية” إلى 3 أقسام: الجحيم والمطهر والفردوس، وتعد أبرز روائع الأدب الأوروبي في زمنه، كما تشكل أساس اللغة الإيطالية الحديثة، لكن “الشاعر الأعلى”، كما يسمى في الأوساط الأدبية، كان مشاركا أيضا في الصراع السياسي والعسكري في زمنه، وكان مؤيدا لوحدة إيطاليا، وتم نفيه من مسقط رأسه حيث كتب روائعه بالمنفى، ودافع عن الحاجة إلى استمرار الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وفي مقال نشرته مجلة “ذي أتلانتيك” (The Atlantic) الأميركية، قالت موميغليانو إنه بالنسبة لجورجيا ميلوني، أول رئيسة وزراء منذ الحرب العالمية الثانية تقود حزبا متجذرا في الماضي الفاشي لإيطاليا بحسب وصف الكاتبة، أصبح دانتي قديسا، ففي أحد خطاباتها منذ بداية ترشحها للمنصب، تغنت بـ3 أبيات من الكوميديا الإلهية، متحدثة بحماسة حول دانتي باعتباره “إيطاليا أصيلا، ومسيحيا أصيلا”. وأعلنت أن دانتي لم يكن أقل من “أب لهويتنا”، ويتفق معها في ذلك آخرون من زمرتها، إذ قال وزير الثقافة -المعين حديثا- جينارو سانغيوليانو إنه يعتبر دانتي “مؤسس الفكر اليميني في بلادنا”.
وأضافت الكاتبة أنه لفهم كيف أوصل اليمين المتطرف تبجيل دانتي إلى مستوى جديد، يجب على المرء أن ينظر إلى أسلاف ميلوني التاريخيين (الفاشيين الأصليين)، فقد كان شغفهم هو الذي أطلق الهوس الحالي حول دانتي، والأسباب الكامنة وراء ذلك تتمثل في 3 جوانب: ادعاء صريح بشوفينية الرجل الذي لطالما عُرف بأنه شاعر إيطاليا الوطني، والاعتقاد بأن دانتي تنبأ في أحد أعماله بصعود شخصية دكتاتورية، وإمكانية استدعاء كتاباته السياسية والاجتماعية في سياقات قد تنتمي لمنظور رجعي، حسب تعبير الكاتبة.
رمز القوميين
وحسب الكاتبة، عام 1921، انطلق نحو 3 آلاف من أعضاء المليشيا الفاشية من أنصار بينيتو موسوليني “مسيرة إلى رفينا” (مدينة إيطالية) احتلوا خلالها قبر دانتي، ثم احتلوا المدينة بأكملها، ويفاخر النشيد الرسمي للحزب الفاشي بإحياء “رؤية دانتي”، في حين جعلت حكومة الفاشيين بقيادة موسوليني قراءة الكوميديا الإلهية إلزامية في جميع المدارس الثانوية الإيطالية، وشجعت الدعاية التي كانت تقارن الزعيم دوتشي الفاشي (كما كان يسمى موسوليني) بالشاعر الكبير.
وبينت الكاتبة أن فكرة دانتي كأب للأمة الإيطالية اكتسبت زخما في القرن التاسع عشر، عندما بدأ المثقفون يضمرون تطلعات لدولة موحدة لشبه جزيرة إيطاليا التي كانت منقسمة آنذاك؛، إذ كانت إيطاليا ضعيفة الهوية، فقد قال ستيفانو جوسا، زميل الدراسات الإيطالية في جامعة رويال هولواي في لندن، إن القوميين في القرن التاسع عشر، الذين كانوا في ذلك الوقت يقاومون الحكم النمساوي، انجذبوا إلى دانتي لأنهم رأوا فيه متمردا مضطهدا.
ورأت الكاتبة أن الفاشيين، على عكس القوميين في القرن التاسع عشر، لم يعتبروا دانتي رمزا للهوية الوطنية فحسب، بل رأوه عرّافا لحكمهم الاستبدادي، ففي آخر نشيد “المُطهِّر” (Purgatorio) في “الكوميديا الإلهية”، تنبأت “بياتريس” بمجيء المنقذ، الذي فسره الفاشيون على أنه موسوليني.
وفي مقال بعنوان “في الملكية”، أيد دانتي فكرة الأمة المسيحية المتحدة في ظل حكم ملك علماني، الأمر الذي راق الفاشيين إلى حد كبير، وفقا لنيكولو كريسافي، أستاذ الأدب الإيطالي في جامعة كامبردج.
وتابعت الكاتبة قائلة إن موسوليني استخدم الكوميديا الإلهية سلاحا وتبريرا لبعض سياساته الشنيعة، ويتفق الأكاديميون على أن محاولات الفاشيين لاستخدامه في أجنداتهم السياسية كانت مسألة إسقاطات وتوظيف أكثر من كونها مسألة تأثر حقيقي بالشاعر العظيم.
فكرة الزعيم الملهم
ووفق الكاتبة، ما كان يُنظر إليه في زمن موسوليني على أنه رغبة دانتي في حاكم فردي يتم تعيينه من الله لا يتناسب مع المفهوم الحديث للقائد القوي، حيث يقول كريسافي إن توق دانتي لقائد قوي هو في الواقع رغبة في “سلام عالمي”، وتعتبر قراءة أعمال دانتي رمزا للقومية قراءة مضللة أيضا، لأن مفهوم الأمة -كما نعرفها- كان غريبا على دانتي، وفقا لجوسا الأكاديمي المختص بالدراسات الإيطالية، الذي أوضح هذه الفكرة بقوله “لقد عاش (دانتي) في فترة تاريخية مختلفة تماما، ولا يمكن تشبيهها بأي أيديولوجية سياسية معاصرة”.
وأفادت الكاتبة بأنه في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تبنى اليمين المتطرف في إيطاليا أبطالا أدبيين آخرين، فقد أصبح يوليوس إيفولا، الفيلسوف الفاشي الذي دعم موسوليني -ولكنه لم يكن مؤثرا في ظل حكمه- من الأدباء المفضلين لدى الفاشيين الجدد في خمسينيات القرن الماضي، وكان عزرا باوند، الشاعر الأميركي الغنائي والداعم المخلص لموسوليني، أيضا بطلا لهؤلاء “الرجعيين” فيما بعد الحرب.
وكان إيفولا -الذي لا يزال تأثيره متواصلا على حركات يمينية معاصرة- يعتقد بتأثير السحر والماورائيات المتجاوزة للطبيعة مثل الأشباح والتخاطر، وكان معاديا للمسيحية وطور روحانيته الخاصة بالمقابل، واقترح تحويل الفاشية لنظام مستوحى من القيم الرومانية القديمة بدلا من المسيحية التي هاجمها في كتابه “الإمبريالية الوثنية”، ورغم أن بعض نصوصه تنتقد الفاشية، فإن موسيليني استخدمها لتهديد الفاتيكان بإمكانية قيام فاشية مناهضة لرجال الدين.
وخلال سبعينيات القرن الماضي، أصبحت قصة “سيد الخواتم” لمؤلف ملاحم الفانتازيا الشهيرة جون رونالد تولكين مصدر إلهام للأعضاء الشباب في حزب الفاشية الجديدة الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية، والذين وجدوا جاذبية خاصة في وجهات نظر -بروفيسور الأدب واللغة الإنجليزية ومؤلف ملاحم الهوبيت والسيلماريليون أيضا- التقليدية المعادية للحداثة وتعريفه الواضح للخير والشر.
وتقول الكاتبة موميغليانو إنه عندما بدأت رئيسة الوزراء الإيطالية الحالية ميلوني في ترسيخ زعامتها كقائدة سياسية عام 2019، احتاجت حركتها اليمينية المتطرفة إلى منارة ورمز ثقافي أقل تطرفا سياسيا من باوند وإيفولا. كما سعت إلى تبني شخصية إيطالية، غير تولكين الإنجليزي. لذلك، لتجنب الافتقار إلى الخيال، لجأ حزبها ببساطة إلى دانتي.
ويقول الأكاديمي جوسا إن “الاستيلاء على دانتي ينبع من الافتقار إلى ثقافة قوية أساسية وسط اليمين الإيطالي. إنهم بحاجة إلى رموز، لتعويض غياب مشروع ثقافي حقيقي”.