التصدي للعمل العام ليس من الأمور الميسورة لكل الناس، فالكثيرون يسعون للوصول إلى تصدر المشهد السياسي في بلادهم وغيرها، بحُجية أنهم يمتلكون قدراً من “كريزما” القيادة، بينما هم في حقيقة الأمر، يفتقدون الصفات والمعايير الأساسية التي ينبغي توفرها من أجل تصدر تلكم المراكز القيادية، بالإضافة إلى أنهم يُعانون من خبرة معدومة في الحكم، وإدارة شؤون البلاد والعباد!
وأكبر الظن عندي، أنني بعد خطاب الأخ الفريق أول شمس الدين كباشي إبراهيم شنو عضو المجلس السيادي الانتقالي، فكرتُ ملياً في الإسم من حيثُ المدلول اللغوي والإصطلاحي، لأن ذلكم يشغلني في كثير من الأحاييبن، فوجدتُ أن أصل شمس الدين اسم عربي مصدره الشمس، والدين تعني الديانة. والشَّمْسُ، لغةً تعني النَّجْمُ الرئيسُ الذي تدور حولهُ الأرض، وسائر كواكب المجموعة الشمسية. ومن أشهر من لُقب بشمس الدين الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، وهو مُحدث وإمام حافظ، جمع بين ميزتين لم يجتمعا إلا للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي، حوادثَ ورجالاً، المعرفة الواسعة بقواعد الجُرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها. والأمر الثاني الذي انقدح في ذهني قدحاً ، لم أجد منه فِكاكاً، للمقاربة وليس المقارنة، ما ذركرته صحيفة “الديلي ميل” اللندنية، وهي من صحف “التابلويد” البريطانية، قبل أكثرمن ست سنوات، من أن هناك سبع صفات أساسية ينبغي أن تتوفر في القائد الناجح، وهي:
1- التواصل الجيد مع غيره: يجب أن يكون القائد لديه قدرة على التواصل مع غيره، وشرح ما يريد تنفيذه بشكل جيد لفريقه.
2- القدرة على بناء فريق عمل: ينبغي أن يتصف القائد بالقدرة على بناء فريق عمل جيد، وتحديد المهارات وأنواع الشخصيات المطلوبة لبناء فريق قوي.
3- الثقة بالنفس: ينبغي أن يتصف القائد بالثقة في نفسه وفي قدراته حتى يثق به من هم تحت قيادته أيضاً.
4- التحلي بروح الدعابة: فإن القدرة على رؤية الجانب المضحك من الأمور، يساعد الشخص على تجاوز جميع المشاكل التي يواجهها ببساطة.
5- التواضع: القائد الناجح يتقبل الآراء الأخرى، بل ويتقبل النقد من غيره، خاصةً من الفريق الذي يديره، دون مكابرة.
6- الإنسانية: يعتقد كثير من الناس أن القائد الناجح ينبغي أن يكون قاسياً في التعامل حتى يتم إنجاز العمل بالطريقة التي يريدها، إلا أن الدراسات أثبتت أن القائد الناجح ينبغي أن يراعي التواصل الإنساني مع فريقه، ويحافظ على صحتهم النفسية ليتمكنوا من أداء عملهم على أكمل وجه.
7- النشاط الدائم: يجب أن يكون القائد نشيطاً على الدوام، وهذا يتطلب منه أخذ قِسطٍ كافٍ، من الراحة والنوم لمدة لا تقل عن سبع ساعات يومياً.
كل هذه المعلومات وجدتها تترى إلى ذهني فور سماعي ومشاهدتي وقراءتي لخطاب الأخ شمس الدين كباشي عضو المجلس السيادي الانتقالي في الأيام القلائل الماضيات، لأهليه في ولاية جنوب كردفان، بلغة شمسية لا لبس فيها، ولا غموض يعتريها، مركزاً في حديثه عن الجيش، بعد ما كثر اللغط في تفكيك الجيش، ونزعه من عقيدته العسكرية، والحديث عن الهيكلة وما أدراك ما الهيكلة! ومن ثم بشئ من تنازل المفككين إلى الدمج، وما أدراك ما الدمج! محذراً من التلاعب بالألفاظ، لأن الألفاظ، كما أجمع اللغويون هي أوعية المعاني، إذ دعا إلى عدم الالتفات للأحاديث عن تفكيك وهيكلة وإصلاح الجيش، مؤكداً بأن القوات المسلحة باقية، فيما بدا أنه رد على مساعي القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري، بشأن إدراج قضية الإصلاح الأمني والعسكري ضمن قضايا المرحلة النهائية. أما عن الدمج، بعد أن اشتط البعض في اقترحاته، بأن جعل إحدى المليشيات هي الأساس، وأن الجيش ينبغي أن يندمج فيها مع المليشيات الأُخريات، فلم يحتمل مثل هذه السفسطة في القول، واللجلجة في الرأى، فأنبرى له دون أن يُسميه عامداً متعمداً، حيثُ أعلن أن الجيش هو الأصل في عملية الدمج، موضحاً ذلكم بصريح العبارة، أن “الحل الجذري لقضية الأمن في البلاد، يتمثل في تكوين جيشٍ واحدٍ عبر دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وتنفيذ الترتيبات الأمنية”.
وأحسبُ أن الكثيرين لا يعرفون ارتباط كباشي بالجيش، فالجيش بالنسبة له ليست مهنة، بل حبٌ وحياةٌ، فهو قد تشرب ذاكم الحب من والده الذي سبقه إليه في عام 1955، ووضع “سلاح أرضاً” في عام 1973. واتاحت ليَّ جِلسات مؤانسة مع كبار القادة العسكرين قدامى وعاملين، بالإضافة إلى أنني كنتُ أترأس منظومة صحافية إعلامية، جُل نشاطها كان مع القوات المسلحة، وما زالت تلكم العلائق مستمرة إلى يوم الناس هذا، ومن بين هؤلاء الأخ شمس الدين كباشي، فمن هذه المعرفة، توصلت إلى أنه من الضباط الشطار، وهو أقدم ضابط، ما زال في الخدمة العسكرية من الدفعة 32، ومن ضباط المشاة المبرزين، والمشاة أو القوات البرية، حسب المصادر العسكرية، هي قلب الجيش النابض، وما دونهم مساعدين لهم دون الإقلال من شأن القوات الأخرى. فقوات المشاة هي الأصل في الجيش، وهي بمثابة العمود الفقري للجيوش. ومن المعلوم، أن تميز كباشي، جعله معلمٌ متميزٌ في المعاهد العسكرية، حيثُ يُدرب الضباط والجنود، وكفاءته دفعته إلى تسنم نائب رئيس هيئة الاركان للتدريب. وقائد عسكري محنك، عمل وما زال يعمل في الجيش طوال أكثر من 40 عاماً خدمة عسكرية، بينما الفريق أول عبد الماجد خليل صار قائداً عاماً للجيش بخدمة لم تتعدَ 21 عاماً، بجانب كل ذلك، أنه خلوقٌ وحييٌّ ومتواضعٌة، ومحدثه يكتشف من الوهلة الأولى، مقدار ثقافته وإطلاعه في العلوم العسكرية وغيرها. وغضبته المضرية تؤكد مدى حبه وتعلقه بالجيش.
وفي رأيي الخاص، أنه عَلم عِلم اليقين أن أهليه في ولاية جنوب كردفان نفد صبرهم، وعيل اصطبارهم من الانفلات الأمني، والصراع القبلي الذي شهدته ولايتهم في الأشهر الماضية، فطمأنهم من أن “الحكومة لن تنتظر تكوين جيش واحد، ويتوجب عليها في هذه المرحلة العمل على تعزيز الأمن من خلال تفعيل حالة الطوارئ المعلنة في الولاية (جنوب كردفان)”. وكان أميناً وصريحاً مع رجالات الإدارة الأهلية التي ولجت دهاليز الساسة والسياسة، دون أن تكون ذو دِربةٍ ودرايةٍ بأحابيل الساسة، وأباطيل السياسة، فاضطربت مواقفهم، وانهد بُنيانهم المرصوص، وضاعت هيبتهم بين الناس، فبدلاً من أن يكونوا أهل الحكمة والحصافة، أصبحوا تُبعاً لبعض الساسة أو الطامحين أو الناشطين، إلا مَن رحم ربي! فلم يعجب ذلكم الحال، ولا تلكم المآل، الفريق أول شمس الدين كباشي لرجالات الإدارة الأهلية، الذين كانوا في قريب الزمان أهل الحل والعقد في معالجة قضايا أهليهم بالحكمة والهيبة. فأضطر على الإشارة، إلى وجود اختلالات وصفها بالكبيرة، في أداء الإدارة الأهلية خلال الفترة السابقة، مطالباً قادتها بالنأي عن السياسة، ومحاربة خطاب الكراهية.
أخلصُ إلى أن كباشي كان صريحاً وواضحاً في انتقاده للاتفاق الإطاري، إذ قال “إن العملية السياسية الجارية عبر الاتفاق الإطاري لا تحظى باتفاقٍ كافٍ. وهناك إجماع على وجود مشكلة سياسية بالبلاد، واختلاف وجهات النظر في طرق حلها”، مؤكداً أن المكون العسكري لن يُوقع على اتفاقٍ غير متوافقٍ عليه من القوى السياسية”.
ولقد اضطربت ثلاثية الحرية والتغيير المركزي من هذه الانتقادات التى أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاتفاق الإطاري بشكله المعلن، لأننا فجأة وبلا مقدمات، اكتشفنا أن هنالك اتفاقاً إطارياً غير معلن! وبالرجوع إلى الاتفاق الإطاري المعلن تأكد للجميع ألا مستقبل له البتة! وليس كما يدعي أصحاب التفكير الرغائبي (Wishful Thinking) الذين يعلنون مواقيت زمانية لتعيين الولاة، ومعايير اختيار رئيس الوزراء، وورش عقدوها كانت أفرغ من فؤاد أم موسى حضوراً، حتى أن أحد الإخوة الذين أتدارس معه بعض هذه التصريحات الصحافية والإعلامية العنترية لثلاثية الحرية والتغيير المركزي، سألني عن جُرأة هؤلاء، فأشرت له إلى مفهوم التضليل الإعلامي، عند خبراء الإعلام، الذي هو العبث بمحتوى اتصالي وتوجيهه بشكلٍ ممنهجٍ لخدمة أهدافٍ تنجرف عن المصلحة العامة إلى أخرى ضيقة للحصول على نتائج تتعارض مع الحقيقة لترسيخ واقعٍ محددٍ في ذهن المتلقي. ويُمارس هذا التضليل الإعلامي من دون أي إحساس بالمسؤولية تجاه أخلاقيات المهنة الإعلامية في ضوء خبرات حرفية تجمل الأكاذيب وتزينها، وبمعنى أدق اخفاء الحقائق عن الجمهور عبر الوسائل الإعلامية المختلفة (التقليدية والإلكترونية) وإغراقها بالأخبار والمعلومات المزيفة والمحرفة، مما يحول الوقائع إلى مجرد أوهام تعشعش في رؤوس المتلقين، وتؤسس لأوضاعٍ وصورٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ خطيرةٍ!
وكان الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس المجلس السيادي الانتقالي ذكر من قبل “أن الجيش لا يُريد مع جهة واحدة المُضي في الاتفاق الإطاري، وأن القوات المسلحة تُريد مشاركة الجميع في تنفيذ الاتفاق الإطاري لإدراكها بأنه لن يقبل أحد أن تسوقه فئة معينة دون أن تُشرك الآخرين”.
وبدأت تصريحات قيادات ثلاثية الحرية والتغيير المركزي، تستجيب لمضاغطات المكون العسكري والقوى السياسية الأخرى التي تترى عليهم بين الحينِ والحين! ومن المكون العسكري يعلم تماماً بدونه لا يُنفذ الاتفاق الإطاري، مهما دعمته قوى خارجية! ومن أمثلة تقهقر التصريحات بالأمس القريب حذر محمد الفكي سُليمان القيادي بالتجمع الاتحادي من حربٍ أهليةٍ لا تُبقي شيئاً ولا تذر في السودان، إذا تعطل المُضي قُدماً في الاتفاق الإطاري، مؤكداً لا بديل لهذا الاتفاق. وأن إلغاء الاتفاق الإطاري يعني عودة البلاد إلى مربع المواجهة! وانتهى به تقهقر التصريحات الصحافية بعد أحاديث مضاغطات البرهان وكباشي إلى الدعوة لتوسيع المشاركة في الاتفاق الإطاري. وأبدى محمد الفكي سُليمان زهده في عدم المشاركة في لجنة إزالة التمكين الجديدة، مع التعهد بالتعاون مع اللجنة الجديدة!
وفي خاتمة هذه العُجالة، أذكر ثلاثية الحرية والتغيير المركزي، بهذا المثل العربي الذي يجدونه في كتاب “الأمثال والحِكم” لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، فالمثل ينطبق على حالهم ومآلهم، وهو “الصيفَ ضيَّعتِ اللبن”، فإن العرب تقول للرجل الذي يُفوِّتُ الفرصة على نفسه ثم يتحسر عليها! فهل يا تُرى ثلاثية الحرية والتغيير ضيعت اللبن!
i.imam@outlook.com