هنا مقالة، كتبتُها من وَحي زيارتي الأخيرة للمدينة المنوّرة، وتشرُّفي بزيارة مُتحف «سيرة ومسيرة» للشّيخ عبدالغني حسين، وخروجي مذهولًا ممَّا رأيتُ وما سمِعْتُه عن قصَّةِ الرّجُلِ.
منكسرًا ومفلسًا، وحاملًا جبالًا من همومٍ وديونٍ؛ أغرقته بالكامل، يدخل بتلك النّفسيّة على الشّيخ عبدالعزيز بن صالح، رئيس محاكم المدينة المنوّرة الأسبق -يرحمه اللهﷻ- وهو من كان قبلها المُوسِر والأشهر من مقاولي مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وبكُلّ الرّجاء يطلب الشّيخ ابن صالح أن يُمهله لستّة أشهرٍ؛ كي يستطيع أن يُوفي لأصحاب الدّيونِ أموالَهم….كغالب التّجار، لا بدَّ أن يُضرب التّاجر في عمله وتكسد بضاعته، ولن يصدِّق أحد اليوم أنّ أحد أشهر أثرياء المدينة المنوّرة، وهو الشّيخ عبدالغني حسين، كان ذلك الرّجل المفلس الّذي أتى الشّيخ بن صالح ذلك اليوم من منتصف الثّمانينيات الهجريّة، وأنّ رئيس المحاكم وإمام الحرم المدني الأشهر، عرفه وتعاطف معه، واستحلفه بأنّه عازمٌ وصادقٌ في ردِّ ديون غُرمائه؛ ليُقسم له بصدقه وعزمه، ولم تمضِ سنة واحدة إلّا وقد أوفى كلَّ ديونه، وانطلق –أخرى- في تجارته، بعد أن تعلَّم الدّروس التترى والعميقة الأثر ممّا حصل له، وها هو اليوم قد أوقف جميع أمواله لله تعالى، وهي ثروةٌ طائلةٌ تَدهش، إن سمعت برقمها؛ أوقفها في مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام..,*«ما نَقُصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ»* ظللتُ أردِّد هذا الحديث النّبويّ الصّحيح، وأنا أجول في متحف «سيرة ومسيرة» في وقف الشّيخ عبدالغني حسين، وأستمع إلى أخي الدّكتور محمّد أديب الموافي، وهو يُعدِّد لي الشّركات المختلفة التّخصُّصات والشّهيرة على مستوى طيبة الّتي أوقفت، مؤكدًا أنّها ظلّت على أرباحها في جائحة «كورونا»، ولم تتأثَّر، عكس بقيّة الشّركات الخاصّة، من بَركة الوقف ونيَّة صاحبها….أتيتُ لزيارة «مجلس حيِّ بئر عثمان» بالمدينة المنوّرة، ضُحى الخميس الفارط مُتعَبًا، والوَسنُ يداعبُ جفنيَّ وأنا أغالبه، وقد أمضيتُ اللَّيل أتقلَّب في فراشي من شدَّةِ البرد؛ إذ لم أعتد هذا البرد القارس، وبما نقول في شعبياتنا: «بردٌ يتغلغل للعظم»؛ إذ لم أكد أغفو قليلًا، إلّا وأصحو من لسعاتِ البرد، لتعاتبني والدتي الغالية في الصّباح أنّني لم أطلب الألحفة الشّتويّة الثّقيلة، رغم نومي بالمِعطف والملابس القطنيّة، بيد أنّه بَرْدُ المدينة الّذي وَعد سيِّدُ البشرﷺ على مَن صَبرَ عليه –وحرِّها- بشفاعته، فداه أبي وأُمّي….وإذ شُدهنا –شقيقي الأكبر عبدالحفيظ مدير النّادي العلميّ السّعوديّ السّابق وأنا- من تعدُّد الجمعيات الخيريّة الموقوفة، والّتي تتغذّى من ريع تلكم الأوقاف الآنفة؛ همست للدّكتور الموافي بأنّني لم أسمع قبلًا عن الشّيخ عبدالغني حسين، رغم خيريَّته وإحسانه العميم وبذله الكبير، وأنّني متعجِّبٌ ممّا أرى؛ فالشّيخ سليمان الرّاجحي -مثلًا- ومعه الشّيخ عبدالرّحمن فقيه -حفظهما الله ﷻ- ممّن نسمع عن إحسانهما، ونالا من الشُّهرة الّتي يستحقّانها؛ بسبب نشاطهما الخيريّ والمجتمعيّ، فلماذا لم نسمع –نحن من خارج المدينة المنوّرة- عن الشّيخ عبدالغني، وهذه أياديه وصلت إلى كثير من بيوتات طيبة الطّيبة؟!.أجابني مُرافِقُنا الجميل د.الموافي بأنَّ الرّجل حرِص طيلة حياته على أن يكون عملُه خالصًا لله ﷻ، وأنّه لم يطلب به شُهرة أو سُمعة، إلّا أنّنا في الآونة الأخيرة أصررنا عليه –نحن مستشاريه وأبناءه- أن ينقل تجربته للأجيال الجديدة، وفكرة الوقف الّتي انتهجها، فانفتح مؤخَّرًا للإعلام، فضلًا على أنّ جُلَّ العمل الخيريّ للشّيخ عبدالغني مُنحصرٌ في المدينة المنوّرة، وعندما فاتحناه عن ذلك وضرورة التمدِّد لمدن أخرى؛ كان يجيبنا: وهل هناك أطهر وأبرك وأفضل للصّدقات من مدينة رسول الله ﷺ؟!.وتذكّرتُ أنّني كتبت ذات مقالة بأنّ وجهاء كلّ مدينة في بلادنا مفترضٌ بهم أن يبدؤوا بمدنهم ومناطقهم الّتي ينتمون لها، وضربتُ مثالًا بما يفعله موسرو عنيزة وأثرياؤها، الّذين قدّموا أنموذجًا رائعًا في الوفاء لمُدُنِهم….قال لي شقيقي الأكبر: ألا تُلاحظ أنّ معظم الّذين يبذلون الصّدقات ويُوقفون أموالهم يُطيل الله في أعمارهم؟! وانظر إلى هؤلاء الثّلاثة: الشّيخ سليمان الرّاجحي والوجيه عبدالرّحمن فقيه والشّيخ عبدالغني حسين، فأومأتُ له موافقًا ومتعجّبًا من هذه الملاحظة، ولعمرو الله تعالى هي التي ستبقى لهم في آخرتهم، بَينا أموالهم يتوزَّعها أبناؤهم وأحفادهم….أحرص على قراءة سِيرِ النّاجحين في الحياة، وليس بغريبٍ على الشّيخ عبدالغني أنّه بدأ من الصّفر، كمعظم أثرياء بلادنا، والرّجل –بما قرأتم- وصل في إحدى مراحل حياته للإفلاس، وحاصرته الدّيون، ولكنّه لم يستسلم، وأعاد ترتيب وضعه في قصّةِ نجاحٍ مذهلة، حتّى وصل إلى ما وصل إليه من مكانة وثروة طائلة، عبر دروسٍ وعِبرٍ وتجاربَ متنوّعةٍ، لم يقصِّر الشّيخ عبدالغني في إيصالها إلى أبنائه وأحفاده، وأوصاهم بأن يتَّقوا الله تعالى، وعدم التعوُّد على التّبذير والإسراف، مكرِّرًا عليهم: «قِرْشَكْ الأبَيضْ لِيُومَكْ الأسوَدْ»….من الأجنحة الّتي وقفت طويلًا فيها بجولتي في مُتحف الشّيخ عبدالغني حسين: أكاديمية «عمّة جميلة»، والسّيدة جميلة هاته هي عمَّته ومربّيته الّتي ربَّته في صغره، وحفظ لها ذلك عندما بات ثريًّا، وهذه الأكاديميّة تُعنى بفتيات المدينة ونسائها، تقوم بإعطائهنّ دوراتٍ متخصِّصةً في فنون شتّى؛ كالطّبخ والخياطة والأعمال اليدويّة الّتي تخرّجهنّ مهنيّاتٍ، وبقي على مجتمع المدينة احتواء أعمال هؤلاء الخريجات وتشجيعهن، فلا يكفي أن تأخذ فتياتنا الدّورات ولا يعملن، بل يجب على المجتمع تشجيعهن عبر الشّراء منهن، وتقديمهن على الآخرين، خصوصًا إن انضوين تحت جمعية رسميّة أو شركة خيريّة خاصّة….من أروع ما في قصّة هذا الشّيخ المدينيّ وقفة أبنائه وبناته من عمله وفكره ونهجه في الحياة؛ فالرّجل أوقف كلَّ أمواله. وتستغربون أنّ الأبناء مَنْ ساعدوه في ذلك، وعهدنا بأنَّ الطّمع البشريّ وحُبّ المال والنزوع للاستئثار توخز قلوب الورثة، وتجعلهم من الحريصين على مال الإرث، ولكنَّ هؤلاء البررة كانوا خلف أبيهم ودعموه في حياته، بل عندما توفّيت زوجته العام الفارط، ما زال هؤلاء الأبناء خلف أبيهم حتّى زوَّجوه وهو في سنِّه الكبيرة؛ برًّا منهم به، وهمهمت: والله وبالله إنّهم سيَرون برَّهم هذا في الدّنيا قبل الآخرة، وقد باتوا نماذجَ وقدواتٍ يُضرب بهم المثل في مجتمع المدينة المنوّرة في برِّ الأبناء بآبائهم….بالمناسبة، أنا لم ألتقِ الرّجل في حياتي كلّها، ولم أعرف عنه إلا عند زيارتي المتحف بالأمس، بل أزعم أنّه لا يعرفني، كذلك، وسيُفاجأ بسطوري هاته عنه، الّتي كتبتها لإبراز المروءة والبذل والعطاء، وأنموذج برِّ الأبناء بأبيهم وطاعتهم له..أختم بآخر قصص هذا الرّجل الباذل، فقد حدَّثني قريب منه أنّ الشّيخ عبدالغني حسين حضر الأسبوع الفارط مبادرة «صُنِعَ في السُّعودِيَّةِ»، وأمر مباشرة بتخصيص وقفٍ خاصٍّ بتشغيل أبناء المدينة المنورة وبناتها، يُصرف على هذا المشروع من ريع هذا الوقف، وتذكّرت –بما كتبه في مذكّراته- أنّ أول وقفٍ قام به كان بعد إفلاسه ذاك، وسداده لكلّ دائنيه حقوقهم، وبقي عليه دَيْن الشّيخ إبراهيم الجفالي في جدّة، وسافر له لعروس البحر الأحمر، ودخل عليه وأعطاه شيكًا بمبلغ الدَّين، وكان 250 ألف ريال، فأُعجب به الجفالي، وقام بخصم مائة ألف ريال وهبها له، وقال إنَّ الخصم بسبب صدقه في السّداد رغم عثرته، ومن فوره أوقف الشّيخ عبدالغني مائة ألف الرّيال تلك لله سبحانه ﷻ، وربّما كان أول وقف له؛ ليتواصل بعد ذلك في تخصيص جزء من أرباحه كأوقاف، حتّى وصل بعد أكثر من خمسين عامًا اليوم أن يوقف كلَّ ماله في سبيل الله.. تجربة الشّيخ عبدالغني حسين في موضوع الأوقاف، وإن كان قد سطّرها في كتيباته، لكنَّها تستحقُّ الدّراسة والبحث، بل وعمل دراسة أكاديميّة فيها، بالطّريقة الّتي وزّع بها أوقافه، والفكر الّذي جعله ينتهج هذا النّهج، والأرباح الّتي حقّقتها، فممّا قرأته عن تلك التّجربة، لأُجْزِم يقينًا أنّها تجربة ناضجة عبر رؤية واضحة من رجل عَرِكَتْهُ الحياة، وعمِل للدّار الآخرة، وقدّم لها عبر هذه الأوقاف….هؤلاء رجالات المدينة المنوّرة الّتي تتوثَّب اليوم مع أميٍر شابٍّ طموح، يحبّه أهلها المتآزرون مع أفكاره وعشقه المدينة، وسنرى طَيبة تُواصِل إشعاعها للعالم بروح حضاريّة جديدة.