وكالات : كواليس
يحفل الوجود العربي القديم في إسبانيا بحضور في الدراسات العربية والأوروبية، ولكن قلما تطرقت هذه الدراسات، خصوصاً الشائعة منها، إلى الحضور العربي في إيطاليا. وزار الأديب والشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر (1955- 2019) الجنوب الإيطالي، مبديا دهشته من الحضور العربي هناك وكتب للجزيرة نت -في يوليو/تموز 2011- هذا المقال عن العرب في صقلية، وقال:
كنت أعرف أن صقلية مرت بها رياح العرب، لكني فوجئت أن هذه الرياح عبرت أكثر من مدينة وبلدة في إيطاليا أبعد من صقلية.. وإنما باسم آخر، اسم لا نعرفه عن أنفسنا. وهذا ما وجدته في بلدة “أمالفي” (Amalfi) الإيطالية.. وهنا الوقائع.
وليست المؤثرات العربية القديمة في معمار كاتدرائية “أمالفي”، وبعض معالمها السياحية، هي الشيء الوحيد الذي يُذكِّر بالعرب.. سكان الضفة الأخرى من هذا البحر المشترك (… أو تعبير لا يحضرني، الآن، اسم منشئه: البيت المشترك).
بل إن المدينة تفخر، وهي تعدد أمجادها أنها تمكنت من دحر “الساراسيين” (العرب) مرتين، مرة عام 920 م عندما كانوا يعدون العدة لغزو روما، ومرة عام 1544. والهزيمة الأخيرة أصبحت ذكراها عيداً دينياً أضحى مع مرور الأيام كرنفالاً سنوياً.
ويرد ذكر هؤلاء “الساراسيين” والهزيمة التي ألحقتها بهم “أمالفي” في الكتيبات السياحية التي تجدها في الفنادق أو عند محال الهدايا والتذكارات، وإذا سألت من يتحدث الإنجليزية في هذه المحال عن كثرة المرافق التي تحمل اسم “القديس أندريا” ستعرف أنه حامي المدينة وملاكها الحارس، وأنه هو الذي أنقذ “أمالفي” من قبضة “الساراسيين” في غزوتهم الأخيرة لها.
يا لهؤلاء “الساراسيين” الذين يسْرون، على نحو غير مُفكَّر فيه، في عصب المدينة، يقبعون كذكرى مزعجة في خلفيتها! من يكون هؤلاء “الساراسيون” الذين هزمتهم أمالفي “ملكة” البحر الأبيض المتوسط بهمّة قديسها أندريا؟
وكثيرة هي المرافق المسماة باسم “القديس أندريا” ولكن أشهرها (غير الكاتدرائية المكرسة له أيضاً) النبع الذي يتوسط “بيازا دل دومو” التي تتوسط، بدورها، الحي التجاري للبلدة.. وكل من يمر بالساحة يغريه الماء، خصوصاً في ظهيرات الصيف الحامية، الذي يتدفق من ثديي تمثال رخامي لفتاة أو من قربة رجل عجوز.. بينما “القديس أندريا” شفيع البلدة البحرية، يشخص بهالة رأسه النورانية جهة البحر الذي حملت رياحه، ذات يوم، سفن “الساراسيين” الغزاة.
و”الساراسيون” الغامضون حتى اللحظة (بالنسبة لي على الأقل) موجودون في هواء المدينة ومائها! يا لهؤلاء “الساراسيين” الذين يسْرون، على نحو غير مُفكَّر فيه، في عصب المدينة، يقبعون كذكرى مزعجة في خلفيتها! من يكون هؤلاء “الساراسيون” الذين هزمتهم أمالفي “ملكة” البحر الأبيض المتوسط بهمّة قديسها أندريا؟
إنهم العرب المسلمون!
لم أجد في المصادر العربية التي تؤرخ للغزوات على إيطاليا ذكراً للهجوم على “أمالفي” ولا في عهد أي دولة وقع. وإن كان حدث ذلك، على الأغلب، في عهد الدولة الفاطمية.
يبدو أن أول قاعدة مهمة للعرب في إيطاليا كانت في “باليرمو” التي يسميها الإخباريون العرب “بلرم”، فمن هذه المدينة انطلقت معظم الغزوات اللاحقة حتى وصلت إلى روما وفينيسيا
ودعونا نتذكر أن وجود هؤلاء “الساراسيين” (العرب) في إيطاليا قد بدأ قبل ذلك بكثير. فالمصادر العربية ترجع أول وجود عربي في صقلية إلى العام 728 م، لكن ذلك لم يؤمن وجوداً مستقراً إلا بعد عدة غزوات تتابعت في عهدي “الأغالبة” و”الفاطميين”. ويبدو أن أول قاعدة مهمة للعرب في إيطاليا كانت في “باليرمو” التي يسميها الإخباريون العرب “بلرم”، فمن هذه المدينة انطلقت معظم الغزوات اللاحقة حتى وصلت إلى روما وفينسيا.
ولعل الأقدار وحدها هي التي حالت دون احتلال “الساراسيين” لروما عاصمة الإمبراطورية الرومانية الآفلة، وقلب العالم الذي لم يكن يكف عن النبض. فإحدى الروايات التاريخية تقول إن العرب تمكنوا من إنزال فيالقهم في مرفأ المدينة لكنهم لم يتمكنوا من اختراق أسوارها الحصينة فاكتفوا “بنهب” كنوز كاتدرائيات القديس بطرس والفاتيكان والقديس بولص التي تقع خارج الأسوار.
ويقال إنهم عبثوا أيضاً بقبور البابوات، ولكن ذلك لم يفت في عضدهم، فبعد 3 سنين حملت إحدى الليالي العاصفة أسطولهم إلى مرفأ “أوسيتا” التابع لروما، لكن الأسطول الإيطالي بـ “التحالف” مع عاصفة بحرية هوجاء تمكن من دحر الأسطول العربي.. وانتهت بذلك آخر محاولة عربية لاحتلال روما.
حكام الجنوب
ويبدو أن رسام عصر النهضة العظيم رفائيل قد استلهم تلك المعركة في رسم إحدى لوحاته. لكن “الساراسيين”، مع ذلك، كانوا يحومون في الجوار. فقد حكموا أقاليم إيطاليا الجنوبية لنحو 200 عام. ولم تكن “أمالفي” بعيدة عنهم، فهم كانوا في “كالابريا” التي سماها العرب “قلورية” وكذلك في “نابل” (نابولي) وفي “باري”. والحال فإن “أمالفي” كانت، بصورة أو أخرى، في قبضة “الساراسيين”.
وتلك دورة من دورات الزمن. ففي دورة أخرى تمكنت “أمالفي” من الانتقام من “الساراسيين” في ثاني أقدس بقعة عندهم: القدس.
عندما سمعت اسم هؤلاء القوم ظننت أن الأمر يتعلق بأحد الأقوام الأوروبية الغازية كالنورمانديين أو الفايكنغ، رغم أن إيقاع الاسم وخصوصاً مقطعه الأول (سارا) يبدو شرقياً، ولم أعرف معناه إلاّ عندما عدت إلى لندن وبحثت عنه في أكثر من قاموس وموسوعة لأجد أنه أحد الأسماء التي كان يطلقها الأوروبيون على العرب
فقد أنشأ التجار الأمالفيون نظام رهبنة حربياً سموه “فرسان مستشفى القديس يوحنا” حوالي العام 1048، وشكل مع “فرسان المعبد” أقوى نظامي رهبنة حربيين عرفتهما فلسطين أيام الحروب الصليبية، ما لبث أن امتد تأثيرهما حتى شمل معظم بلاد الشام. وكانت الأموال تتدفق من التجار الأوروبيين “المؤمنين” لدحر “الساراسيين” بعيداً عن “بيت المقدس”. وشهدت القدس أهوالاً بعد سقوطها بيد الصليبيين.
وكان اللاجئون الذين فروا من المدينة قد وصلت وفودهم إلى بغداد لحث الخليفة العباسي على تحرير القدس، ولكنه كان أضعف من أن يحرك ساكنا، فشخصت العيون والأفئدة إلى أمير آخر يحكم الموصل يدعى عماد الدين زنكي الذي شكل تحركه بداية الهجوم المضاد لإخراج الصليبيين من بلاد الشام وصولاً إلى القدس.
وقُتل عماد الدين غيلةً قبل أن يبلغ مراده فخلفه ابنه الأمير نور الدين الذي لم يكن، على ما يبدو، أقل منه شجاعة ولا رغبة في مواصلة الطريق. لكن القدس ستنتظر أميراً لم يكن نجمه قد سطع بعد يدعى صلاح الدين، الذي كان أحد قادة نور الدين زنكي، فهو الذي سيكتب له أن يعيد فتح بيت المقدس، بعد أن يدور الزمن دورة أخرى، ويعود الذين جاؤوا لكي يحرروا “قبر المسيح” من وراء البحر إلى بلادهم.
ويقال إن معظم “فرسان المستشفى” من أبناء أمالفي، مثلهم مثل سائر الصليبيين، عادوا إلى بلادهم الأصلية بعد سقوط “مملكة أورشليم اللاتينية” (1099-1143). لكنهم لم يعودوا فقراء كما ينبغي للرهبان أن يكونوا. فقد تمكنوا، أثناء إقامتهم في فلسطين وبلاد الشام، من إنشاء أديرة وإقطاعات، وبناء بلدات في بلادهم الأولى. وليس مستبعداً أن يكون النهوض الذي شهدته هذه البلدة البحرية عائداً إلى “جهادهم” في المشرق.
وعندما سمعت اسم هؤلاء القوم من بائع في محل للهدايا ظننت أن الأمر يتعلق بأحد الأقوام الأوروبية الغازية كالنورمانديين أو الفايكنغ، رغم أن إيقاع الاسم وخصوصاً مقطعه الأول (سارا) يبدو شرقيا، ولم أعرف معناه إلاّ عندما عدت إلى لندن وبحثت عنه في أكثر من قاموس وموسوعة لأجد أنه أحد الأسماء التي كان يطلقها الأوروبيون على العرب، أو المسلمين، أواخر أيام الإمبراطورية الرومانية وصولاً للعصور الوسطى.
وليس للاسم علاقة بـ “سارا” كما تخيلت أول وهلة، فلو كان الأمر كذلك، لعنى وخصَّ “أبناء عمومتنا” اليهود أكثر منا، فنحن أبناء “ضرتها” لكن للاسم، على ما يبدو، إحالة على “الشرق” كما يرجح أحد المعاجم الإنجليزية، أما كيف؟ فإليكم الولادات المتكررة والتجليات المختلفة لهذا الاسم ذي الرنين الشتائمي:
ففي معجم “كولينز” الإنجليزي يمكن تعقب المعاني التالية له: فهو يعني أحد أفراد القبائل العربية الرحل، السورية خصوصاً، التي كانت تغير على حدود الإمبراطورية الرومانية في تلك البلاد، وصار يعني الاسم في الحروب الصليبية أي عربي أو مسلم.
ويرجع المعجم أصل الكلمة إلى الفرنسية القديمة “ساراسيان” التي جاءت من اللاتينية المتأخرة “ساراسينوس” التي أخذتها، بدورها، من اليونانية المتأخرة “ساراكينوس” التي يرجح المعجم أنها جاءت من الكلمة العربية شرق (Sharq).
معان ودلالات
لكن معجماً إنجليزياً آخر يعطي معاني ودلالات أوسع لهذه الكلمة أكدت إحساسي بطابعها الشتائمي، الهجائي، فإلى ما ورد في المعجم السابق يربط معجم “The New Sharter” مختصر أكسفورد الجديد هذه الكلمة بكلمات أخرى مثل: Heathen أو Pagan اللتين تعنيان، عموماً، الشخص الذي لا يعرف الأديان السماوية أو الكافر أو غير المتحضر.. ويمكن لكلمة “ساراسيين” أن تعني البربري أيضاً!
كأن الغزو، حتى وإن حدث في القرن الـ 16، ظل منحصراً في اسمهم كـ “ساراسيين” بينما انفرد اسمهم كـ “عرب” بالمؤثرات الحضارية! وهذا أفضل، على كل حال، من أن يظلوا “ساراسيين” طوال الوقت!
لكن “الساراسيين” عندما غزوا “أمالفي” مرتين لم يكونوا بدواً رحلاً يغيرون على أطراف الإمبراطورية الرومانية ويثيرون هلع الحاميات أو التجمعات المعزولة في التخوم، بل أصبحوا، بعد أن دارت دورة الزمن “الخلدونية”، أصحاب إمبراطورية هزمت الإمبراطوريتين الكبيرتين يومذاك: الرومانية والفارسية، وحلت محلهما. أخذت منهما ما أخذت واختطت لنفسها طريقاً آخر.
والغريب أن الكتيبات السياحية عن “أمالفي” تذكر العرب والمسلمين باسمين مختلفين. فعندما تتحدث عن شوكة “أمالفي” البحرية وقوة أسطولها في العصور الوسطى ونزعتها الدائمة للحرية والاستقلال التي غالبا ما جعلتها مركزاً لمنطقتها، يرد اسم “الساراسيين” وهزيمتهم مرتين في فترتين متباعدتين، ولكنها عندما تتحدث عن المؤثرات الأجنبية في معالمها العمرانية يرد اسم العرب!
كأن الغزو، حتى وإن حدث في القرن الـ 16، ظل منحصرا في اسمهم كـ “ساراسيين” بينما انفرد اسمهم كـ “عرب” بالمؤثرات الحضارية! وهذا أفضل، على كل حال، من أن يظلوا “ساراسيين” طوال الوقت!