ها قد فعلها الرئيس السابق المشير عمر حسن احمد البشير اليـــوم فقد أعاد شريــــط ملحمة تحريـــر مدينـــة ميــــوم غرب النويـــر وهو أمام مولانا حسيــــن الجاك قاضى المحكمة العليا ورئيس هيئة محكمة المتهمين بإنقلاب الإنقاذ 1989م ومساعديـــه كل من مولانا محمد المعتز ومولانا الرشيد .. لقد عشت هذه الجلسة من داخل قاعــة معهد التدريب القضائي بأركويت شرقى الخرطوم وهي مواصلــة لإستجواب المتهمين وإستمتعت بحكي البشير (الجعلي) الذى يتقن لغـة النويــر ويفهم لغـة الدينكا، ويعرف كيميـاء وتفاصيل كل السودانيين ـ كان البشير فارساً شجاعاً ثابتـاً كما عُرف وهو يتحمل الفعل كاملاً وقد تنفس كل المتهمين الصعداء ، ما عدا العميـــد عثمان احمد حسن الذي كان متلجلجاً مربوكاً أثناء اعادة إستجوابــه لدرجة إرباك القاضي وامتعاض المحكمة منـــه وهو يكرر الحديث ويراوغ .. البشير تأخر عن بدايـــة المحكمة بــ (5) دقائـــق فقدم القاضي عثمان احمد حسن لكن مولانا عبدالباسط سبدرات بذكاء الشاعر وحصافــــة الأديب وفطنــة القانونى طلب من القاضي إرجاء بدايــــة الجلسة لمدة قصيرة إلى حين وصول المتــهم الثالث ( البشير ) .. دخل البشير قاعــة المحكمة بهيبة رئيس الجمهوريـــة والقائد الملهم وكان أنـــدى المتهمين راحــــة وأرحبـــهم وجهاً وصدراً، وبكل احتــــرام طلب منــه القاضي ان يقدم شهادتـــه وهو جالساً تقديـراً لظروفـــه الصحيـــة لكنه رفض وفضل أن يكون واقفاً رغم أنه جاء محمولاً من المستشفي على عربــــة إسعاف ويرافقـه فريق من الأطبـــاء والممرضين ومن الحيـن والآخر يراغبـون حالتــــه الصحيـة ويراجعون وزن ضغطـــه للتأكد من إنتظامـــه .. البشير أبدع فى العرض وهو يسرد واقع حال البلاد وأوضاع القوات المسلحة قبل الانقلاب وهى تعانى نقصاً فى كل شئ ومع ذلك تقاتل فى كل الجبهات دون كلل أو ملل ومن أكثر الإستدلالات حزناَ وهزت وجدان كل من كان داخل القاعة عندنا ذكر البشير حديث احد قيادات حكومة الصادق المهدي عندما نقل له خبر سقوط توريت فكان رده فلتسقط توريت فقد سقطت برلين – فقال البشير عبارته المؤثرة : ( بالنسبة للسياسسين توريت قطعة ارض ماعنـــدها قيمة ولكن القوات المسلحة ظلت تقاتل عنها منذ العام 1953م ) وقال بثبات لا يعرف الاستسلام ان النتيجة الحتمية لتلك الاوضاع هي مذكرة الجيش التي وضحت حجم الخطر علي الوطن من خلال أوضاع القوات المسلحة وأمهلت المذكرة القيادة السياسية مدة أسبـــوع للإجابـــة علي المطالب وكانت هي الانقلاب الحقيقي وسقوط الحكومة وهي التي شجعت جهات كثيرة داخل القوات المسلحة لقيادة التغيير الذى لا ينتظر نظراً لأوضاع البلاد، وكنـا جزء من هؤلاء قالها بلغــة تقول ننتصر أو نموت واقفيــــن ومن ملاحظات لغـة جسد الحضور جميعاً كان يردد : ( راجل والله) .. لم ينتظر البشير أن يأتى بعض من المرهوبين ويعلنـــوا براءتـــهم من الانقلاب فسجل إعترافات برأهم جميعاً وتحملها لوحده وهو يبتسم ولسان حالــه يقول كن عزيـــزاً وإياك أن تنحني مهما كان الامر صعبـــاً فربما لا تأتيــــك الفرصـــة كى ترفع رأسك مرة أخرى .. البشير الذى لم يستطع المدفع إسكات صوتـه وهو يحارب فى كل جبـهات القتال الداخلية والخارجيـــة اليـــوم قدم مرافعـة أثبت أن حياتـــه سوف تكون أطول من حياة المتربصين به الذين ينتظرون لحظــــات شنقه أولئـــك الغارقون فى سفالتـــهم والحاجـــة الوحيـــدة التي ربما نساها البشيــــر هي أنــه كان ضمن القادة الذين إبتعثتهم القوات المسلحة السودانيــــة لتدريب وتأهيل الجيش الاماراتي .. البشير قال شهادته بثقة وعزة إبـــن البلد الأصيل : ( ما قمت به ليس عملاً معزولاً ولا طائشاً فهو لإنقاذ البلد وكل وحدات الجيش باركته وأقولها بكل فخر وإعزاز أننى قائــد ومفجر ثورة الإنقاذ الوطني ) وأضاف : ( البلد كانت ضايعــة وتم إنقاذها ويكفي شهادة المرحوم زين العابدين الهندي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجيـــة وقتها عندما قال : الديمقراطية لو شالها كلب مافى زول بقول ليهو جر ) وزاد البشير : ( الحمد لله عشت ثلاثــة عقود وسط الجماهير ما حصل فرضت حاجزاً امنياً بيني وبين المواطنين ولا حصل لبست طبنجة في صلبي ولا إحتجت لحراســـة خاصة وأنني أتخذت قرار 30 يونيـــو واعلم أنه ليس نزهة ولا قرار ساهل ولو فشل كانت النتيجة معروفـــة المحكمة المنعقـــدة الآن كانت بتكون في العام ( 1989م) .. اما اللواء التجانى ادم الطاهر بصوتـــه الجهور وشجاعتــــه وإنضباطـه المهيب فقد ذهب علي ذات طريقـــة شجاعة البشير وهو يحكى عن حال الجيش المتردي قبل انقلاب 1989م وقد ذكر تفاصيل الوقائع كاملة بلا تردد أو رهبــــة وأثبت أن الذى قالـــه البشير نماذج واذا ارادوا التفاصيل فذلك يتطلب مجلدات وقد أثبت التجاني أن رجل القوات المسلحة يعلو بمواقفــه وسد الثغرات امام كل ما من شأنه الهزيمة النفسية وإختراق جدار المعنويات اما اللواء ابراهيم نايل ايدام فهو الآخر بسرده كأنـه أراد البـــوح بأن البشير والتجانى قد مثلوهم تماماَ إنتصاراً للحق وشرف العسكرية إذ أنهما لم يتجاوزا الحقيقـــة فى القضيــــة المثيرة والصاخبــــة .. ليس سهلاً أن تتسمر عيــــون السودانيين داخل القاعة وخارجها وهم يتابعون العرض المدهش للبشير ورفقائـــه الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة الا نقلوها للمحكمة ودونــها القضاة وبثتها القنوات الفضائية المحليــــة و العالمية على الهواء مباشرة ومن الواضح بعد ان نطق البشير بعد اربعـة سنوات من الصمت والمعايشة لمسار القضية التي تطاولت وقد لخصها في كلمتـــه حين قال : ( إنني كنت أستمتع وأستمتع بالفيديـــوهات التي ظلت تقدمها هيئـة الإتهام كأدلـــة إثبات الإتهام ) واضح بعد هذا الحال قد تحول الهتاف التجريمي وشيطنـــة البشير وإخوانـــه إلي عزة وشرف ويا بخت من كان رئيسه البشير .. الاعلاميون كانوا يصورون ويعلقون ويحررون ويبثون اعترافات البشير ولجلجة العميـــد عثمان احمد حسن من غير رغيب حسيب علي الهواء مباشرة فلم يحدث ما يعكر متعة المتابعة ودهشة الحضور إلا تردد عثمان احمد حسن الذي كان يبحث عن الكلمات وهو شارد الذهن بشكل فشلت معه هيئـــة المحكمة رصد حديثه بدقــة لقد اربكها فيما تدون له من اقوال ـ هل ترصد اعترافاتــــه القضائية ام تعتمد نفيـــها او إثباتـــها مرة اخري ..?? وبعيداً عن خلاف الفرقاء السياسيين السودانيين حول إنقلاب الانقاذ 89 بين موافق ومعارض وبالطبـــع لكل فريق حجتـــه وأدلته ولست من اهل الترجيح ولا الفتوى بيـــد ان كل ما استطيع قولــــه من وقائـع ومعايشة جلسة اليـــوم التي بحق تعاش و لا تحكي أن مرافعة البشير وطريقته في ايصال رسالـــة وفكـرة وفعل يؤمن به كانت فريـــدة وملفتـــة للنظر ولقد استطاع البشير إبلاغ رسالته للملايين وقد خدمتــه الحملة التي شنت عليه إبان ثورة ديسمبر ولم يدر صانعوا الحملـــة ذكاء إيصال الأفكار وكذلك خدمته ظروف وفشل الذين أتوا من بعده للحكم ولم يقدموا ما يشفع لهم ولو كان عملاً محدود الأثـــر كالإنجاز الوحيـــد لحكومة الصادق المهدي ( كبـــري السنجكايـــة ) وهو معبر مائي صغيـــر بجنوب كردفان مقابـــل مجهود عظيم وضخم قدمه البشيـــر وحكوماته في مجالات كثيـــرة ـ الخدمات والبنية التحتية ـ التعليم والصحة وغيرها من مجالات الحياة قدمها في ظل ظروف حرب وحصار واستهداف داخلي وخارجى ..