ينظر غالب المشتغلين بالتحليل السياسي هذه الأيام لموضوع حميدتي كصنيعة بشيرية إنقاذية، وفي هذا الزعم هم نوعان الأول يجهل تاريخ الصراع المسلح في السودان والآخر يعلم ولكنه يحاول أن يجعل ظاهرة حميدتي كيزانية امعاناً في صناعة تغيير طفيف يجعله هو وجماعته السياسية خياراً قابلا لإعادة التدوير، وهذا موضوع سنعود له آجلاً.
في تاريخ الصراع المسلح في السودان دائماً ماتكون هناك حوجة لقوة شعبية مسلحة تساند الجيش السوداني في حروبه ضد مطالب الهامش بعمومه، فلماذا يلجأ الجيش لهذا الخيار ؟! ببساطة لأن الهامش السوداني كان على الدوام متقدم عسكرياً ولم ينهزم هزيمة بائنة بل وفي الغالب حافظ الهامش على وجوده العسكري وإن لم ينتصر نصر بائن ولكن على الدوام ظلت فكرته ومظلوميته وخطابه السياسي في حالة من الإتقاد والإلهام والدليل على ذلك توسع أدبيات ومقولات أكبر حركات الهامش (الحركة الشعبية لتحرير السودان) بقيادة جون قرنق وهذه هي صفة حروب المقاومة بالأساس، لذلك كانت الحكومات الوطنية في السودان تلجأ لإيجاد قوات حليفة من جنس المتمردين تقاتل إلى جانبها تحت شعارات كثيرة زائفة وفي الغالب تكون هذه القوات الحليفة ناجحة عسكريا في مساندة الجيش السوداني وهناك أسماء معروفة في جنوب السودان منذ تمرد أنانيا ون مرورا بمناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان ولكن لم يتعرف المثقفين في المركز على قيادات القوات الصديقة للجيش الوطني لأنهم لم يعرفوا الموت الذي تحمله القوات المسلحة وقواتها الصديقة إلى سكان الهامش بعمومه إلا مؤخراً بعد عصر الأنفجار المعلوماتي وعصر الصورة، ولذلك الآن يتحدث الناس عن حميدتي بإعتباره مجرما ..
السؤال لماذا تقاتل الحكومات في السودان شعوبها في الهامش؟؟.
الاجابة ببساطة لان الحكومة ونخب المركز المتحكمة في السلطة والموارد لا تريد أن تدفع استحقاقاً سياسياً تنموياً واقتصادياً لمواطنين سودانيين يعانون ظلماً وقهراً وبطشاً مستمراً منذ حادثة عنبر جودة مروراً بكل الحروب الأخرى في كل أطراف السودان ( ينظر هؤلاء المواطنون ونخبهم لأنفسهم بأنهم مختلفون عن مواطني الشمال والشمال الأوسط ويريدون أن يحتفظوا بكونهم مختلفون بينما تريد الدولة وحكومتها ونخبتها ممارسة سلطاتها وفرض ثقافة محددة عليهم بإستمرار .. بجانب السيطرة على موارد الأرض التي تسكنها تلك الشعوب لتقوية مركزها في السلطة والمجتمع، وفي ذلك لا تختلف أحزاب السودان القديم (يمينها ووسطها ويسارها) .
حكومات الخرطوم المتعاقبة كلها لها نصيب في صناعة (حميدتيات) كُثر ..بالمناسبة في عهد الديمقراطية الثالثة سلحت حكومة الصادق المهدي قبائل العرب البقارة لمحاربة الحركة الشعبية والجنوبيين تحت إسم الدفاع الشعبي فلا تتعجب وقطعا كان بينهم أكثر من حميدتي وكوشيب وموسى هلال، ويمكن طرح السؤال عن ممارسات تلك المليشيات على جنوبيي بحر الغزال ومنطقة ابيي.
ما الفرق بين بين حميدتي الحالي وقيادات تلك المليشيات في العهود السابقة ؟؟.
الفرق اولاً يتعلق بنوعية أولئك القادة القنوعين بما نالوا من رتب وهمية وأموال بذلتها لهم حكومات الخرطوم بينما كان حميدتي متوثباً وطامحاً بحكم عامل السن والعصر الحالي وحالة الضعف التي تعتري الدولة والمجتمع السوداني واحزابه وجماعاته المنظمة..
يمكن القضاء على حميدتي وقواته وتسديد الفاتورة فالدولة المركزية في الخرطوم لم تكترث يوماً ما لأعداد الضحايا جراء سياساتها الرعناء ولكن هل المشكلة في حميدتي؟؟ قطعا لا فعقلية المركز التي قتلت صالح بنكي ( قائد عسكري شرس حارب مع الجيش بمليشياته وكانت جل مليشياته تنحدر من قبيلة (الفلاتة ) بعدما شكل للحكومة نفس التهديد في مناطق النيل الأزرق.
يمكن لحكومة الخرطوم أن تتخلص من حميدتي وقواته ولكن إن لم يتم القضاء على هذه العقلية في المركز فهناك (حميدتيات) كثر سيتم أستيلادهم لقتل سكان الهامش المنتفض على الدوام ضد الخرطوم وسياساتها..
الخلاصة : لمعالجة قضية حميدتي وقواته بشكل جاد ونهائي لابد من تسديد فواتير كثيرة من رصيد الدولة ونخبتها التي حكمت منذ الإستقلال إلى هذه اللحظة والفواتير هذه مختلفة منها تنازل هذه النخب عن امتيازات المواطن درجة أولى ليكون البديل المواطنة المتساوية ومن ثم إجراء مصالحات كبيرة وتعويضات وجبر ضرر ومحاسبة للمتورطين الأحياء ومحاسبة سياسية لمن استنوا سنة القوات الصديقة والمليشيات (قوى سياسية ) بجانب هيكلة القوات المسلحة بحيث يجد فيها كل السودانيين أنفسهم وفقاً لمعايير الكفاءة وإعادة تشكيل عقيدتها القتالية فالجيش السوداني الحالي جل قياداته العليا من منطقة محددة ويتم ترميز لبعض المجموعات الأخرى بشكل مستمر، الأمر الغريب أن كل ضباط الصف والجنود ينحدرون من الهامش السوداني..
هناك ترتيبات سياسية تتعلق بالسلام الشامل والتحول الديمقراطي والتمييز الإيجابي للمتضررين من سياسات التمكين ( بالمناسبة التمكين لم يبدا مع الإنقاذ والدولة العميقة التي يتحدثون عنها هي من تحدثك بسفور عن تمكين الأسر والبيوتات والقبائل من السيطرة على مؤسسات الدولة منذ الإستقلال بل منذ سودنة الوظائف عقاب خروج المستعمر..