تناولت وجبة إفطاري الرمضاني يوم الجمعة 9 رمضان داخل معسكر قوات الشعب المسلحة بمنطقة القريشة على تخوم الحدود مع دولة إثيوبيا.
وصلت ورفاقي ساحة الحامية نهاراً تجولنا داخل المعسكر، بين الدبابات و المدافع و الخنادق و سلاسل الرصاص المعقود على ألوية الحسم.
الوجوه الصارمة و القاشات المكروبة و الأيادي المعروقة و هيبة الكاكي تخبرك أن هؤلاء هم الرجال
دخلت الخندق معهم و شمس أبريل الحارقة تصقل بشرتهم الأبنوسية خشونة و قوة
هممت بالصعود إلى جوارهم في التاتشرات أختل توازني للحظة فوجدت عشرات الأيادي تمتد سنداً و متكئاً و رفقاً ، لا يسقط أحد هناك فتلك بقعة الرفعة و التماسك و الصمود
اجتهدت لاحقاً في محاولات فاشلة ل(عواسة ) عصيدة الدخن المُر طعام الجنود و التي يصعب الإمساك ب (مفراكتها ) ناهيك عن تذوقها .
جنودنا في الحدود يأكلونها ولسان حالهم يقول اسقني بالعز طعم الحنظل …ألا لعنة الله على مندي و مظبي و برياني السفارات
عزيزي القارئ، جنودك في الفشقة شعث غبر تاهت من وجوههم علامات الراحة و خطت القفار والشمس والحشائش اليابسة ملامحهم ، لا يعرفون ماذا تعني كلمة سرير و وسادة وغطاء كما لا يعرفون معنى جهاز تكييف الهواء .
ينامون بنصف عين ، فالعينين واحدة مفتوحة ونصف الأخرى على الزناد ، يتوسدون صفق الأشجار و يستلقي جسدهم بجانب الأشواك و أفلام بوليوود و هولييود التي يتابعونها عبارة عن لسعات كل أنواع الحشرات الزاحفة و الطائرة.
ولا بأس إن قام أحدهم للوضوء أن يبعد ثعباناً كان مختبئاً داخل بوته أو يهش على عقرب كانت تقبع أسفل برميل صفيح يشرب منه هو و الصدأ معاً ولا عزاء للمياه المعدنية و صافية واخواتها في ورش ( اليونتامس ).
أكرموا مقدمنا بشراء مياه صحة لنا ، فمعدتنا و جهاز مناعتنا تعودا على التنقية و الفلترة في خرطوم البؤس و الزيف و العار ، أما معدتهم فلسان حالها يقول نشرب أن وردنا الماء صفواً و يشرب غيرنا كدراً و طينا
جنودنا هناك يبدأون يومهم بتمارين القوة والجسارة ، و يعقدون على نواصي قلوبهم وصيتهم لاخوانهم و أبناءهم فالموت هناك ضيف أصيل وثقيل يتكئ على الجانب الآخر من الحدود يشرع بندقيته تجاه صدور جنودنا فلا يفرون ولا يولون الدبر ، ولا يعرفون غير الإقدام مطمحاً و عقيدة ، فيتثاءب الموت أمام صمود الرجال
رجال الفشقة يؤمنون بأن توضيب البندقية و نظافة الدبابة وحشو الرصاص بمثابة قهوتهم في مطعم أوزون الخرطوم .
يرصون مدافعهم في الخنادق بينما يتسكع آخرون في شارع النيل و يتأكدون من حزم قاشاتهم بينما يتخلى عنها آخرون في مزادات السفارات
يغسلون وجوههم من ترعة فتزيل المياه نصف التراب عن وجوههم و يتركون الباقي لتمويه رصاص الأعداء بينما يستلقي ( سكير ) في (جاكوزي ) كورنثيا و هو يطالب بإعادة هيكلة هذا الجندي .
طعامهم بليلة و عدس ولا يعرفون السوشي ولا الاستيك بالفطر ولا شوربة المشروم ، يعلمون أن السَلطة هي البصل ولا عزاء لشيفات روتانا الذين يجتهدون في وضع ستة عشر نوعاً من السلطات في بوفيه الفندق .
يقيمون صلاتهم بتكبيرة الخشوع و يركعون حمداً لله على نعمة أنهم رجال و يسجدون وجباههم تناطح عنان السماء فخراً و عزاً بحمايتهم للحدود و الوطن والعرض .
الرجال في الفشقة وليس الذين يصفقون لفولكر
الرجال في الفشقة وليس الذين يستدعون البعثة الأممية لتمكنهم من الكراسي
الرجال في الفشقة وليس الذين يقيمون و يتقيؤون كرامتهم في منزل السفير السعودي
الرجال في الفشقة وليس الذين يفطرون رمضان في شارع ( زيرو )مع السفير الأمريكي
الرجال في الفشقة وليس الذين يشربون الخمر ليلة السبت مع السفير البريطاني
الرجال في الفشقة وليس الذين يرقصون على ايقاع واحده و نص في القنصلية المصرية
في الفشقة نمنا مطمئنين أن أسوداً تحرسنا رغم وجود عصابات الشفته الاثيوبية على الجانب الآخر ، أما في الخرطوم فننام على القلق رغم أن منازلنا تبعد بضع كيلومترات عن القصر الجمهوري…
الأمان ليس في الموقع الجغرافي لك
ولكن في مْن يحرسك ….!!!